مع ارتفاع جودة مخرجات التعليم العام مهاريا ومعرفيا، سيتغير سوق العمل للمواءمة مع التعليم، وتتغير مناهج التعليم العالي لتتواءم مع التعليم
في إحدى المدارس النموذجية بأميركا، قرر طلاب أحد الصفوف في المرحلة الثانوية بناء منزل كمشروع التخرج الخاص بهم. ووافقت المدرسة بالاستثمار في هذا المشروع. وبدأ الطلاب في تنفيذ المشروع خلال العام الدراسي من بناء فريق العمل، تقسيم المهام، تصميم الجدول الزمني، القوائم المالية، وقائمة المشتريات، بالإضافة إلى مهارات النجارة، السباكة، الكهرباء، الحدادة، وكل المعدات المتعلقة بذلك. ولم يكتفوا بذلك، بل قام الطلاب بتسويق البيت وبيعه، فأضافوا على خبراتهم. سؤالي، لو كنت مالكا لشركة عقارية وتقدم لك أحد هؤلاء الطلبة، فهل سيُقبل؟
في سباق غير منته بين مخرجات التعليم وسوق العمل، سيظل التعليم في وضعه الحالي متأخرا لا محالة، الربط بين مخرجات التعليم وسوق العمل قد يكون ضرورة في زمان مضى، ولكنه سباق غير واقعي في هذا العصر. سرعة النمو التعليمي بطيئة مقارنة بتسارع نمو سوق العمل، فالرأسمالية تدفع التقدم التقني والعلمي وغيره بسرعة تتضاعف بشكل هائل. لأوضح الصورة أكثر، هناك فجوة كبيرة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، وليس الحل في المواءمة التخصصية، بل في التركيز على إخراج منتج يتحلى بالمهارات اللازمة التي يستطيع سوق العمل استثمارها في بناء المعرفة والأداء.
يتم تقييم كل مهنة عبر ثلاثة عناصر: المعارف، المهارات، والقيم المنظمة للمهنة أو للجهة المعنية. وعند المقابلة الشخصية، مع اختلاف الأسئلة، فيسعى سوق العمل إلى التعرف على مدى مواءمة العناصر الثلاثة مع احتياجات الشركة. وبعض الشركات تضع وزنا أكبر على القيم والمهارات عن المعرفة. ولأن سوق العمل هو مصب مخرجات التعليم، فدوما سيكون المقرر لما يريده من معارف ومهارات وقيم. ولكن، هل لدى التعليم المرونة الكافية للمواءمة؟
مع كل مرحلة انتقال، تقوم الجهة بإعداد المخرجات ضمن برامج تجسير للمواءمة المطلوبة. فمثلا، مخرجات التعليم العام تحتاج إلى عام كامل يسمى بالسنة التحضيرية للمواءمة مع متطلبات التعليم العالي. ومخرجات التعليم العالي تحتاج إلى أشهر يختلف عددها بحسب الشركة للمواءمة مع احتياجات الشركة، وتعاقديا مدتها ثلاثة أشهر كفترة تجريبية. فلدى بعض الشركات سنة كاملة، وغيرها ثلاثة أشهر. ويبقى الصراع مستمرا بين مخرجات المحطة الأولى واحتياجات المحطة الثانية. والسؤال هنا، هل نستطيع أن نوفر مخرجات أعلى كفاءة مما تحتاجه المحطة الثانية؟ هل نستطيع تأهيل مخرجات التعليم العام لتتحلى مخرجاتها بكفاءة أعلى مما تستطيع أن يقدمه التعليم العالي؟ هل نستطيع تخريج طلاب من التعليم العالي ليس فقط ليتوظفوا، بل ليصنعوا الوظائف؟ هل نستطيع تقليص فترة الإعداد للبدء بالإنتاج دون الإخلال بضوابط البناء؟
من الصعب جدا تحقيق ذلك، صحيح. وقد يكون مستحيلا بالأدوات التي نمارسها اليوم. التركيز على ثلاثة مجالات ستسهم في إثراء المحتوى وإعادة تعريف الربط بين مخرجات التعليم وسوق العمل.
أولا: إعادة تعريف دور المعلم لأن يكون ميسرا لإيصال المعلومة. فإن كان المعلم ناقلا للمعلومة فسيظل دائما احتمالية لسقوط بعض المعلومات، إما من المرسل أو من المستلم.
ثانيا: وضع معايير للمناهج الدراسية توجه المعرفة والمهارة والقيم المطلوبة بأوزانها اللازمة في مناهجنا. وإن كانت المناهج محددة الإطار والمحتوى والآلية، فقد رسمت ذلك حدودا للمعرفة التي لا حدود لها.
ثالثا: غرس مفهوم البحث والتعلم الذاتي والسعي للحصول على المعلومة عند الطلاب. فمصادر التعلم اليوم أوسع من حصة دراسة أو منهج أو واجب منزلي.
أختم بقصة الطلاب، تعلموا المعرفة عبر الممارسة، وأصبحوا جاهزين لمواجهة سوق العمل. فهل سيتقدمون للحصول على درجة البكالوريوس أو الماجستير وهم قادرون على دخول الأبواب التي تفتحها لهم الشهادات العلمية؟ وهل سيقبلون الوظيفة وهم قادرون على بناء منزلهم بأيديهم وبيعه؟ مع ارتفاع جودة مخرجات التعليم العام مهاريا ومعرفيا، سيتغير سوق العمل للمواءمة مع التعليم، وتتغير مناهج التعليم العالي لتتواءم مع التعليم. تحقيق ذلك طموح قد يستغرق عقودا من العمل، ولكن التحديات والمشاكل تنحني أمام الإرادة والإصرار.