نحن بحاجة إلى تنوير إسلامي، أو بعبارة أخرى حداثة إسلامية إن صح التعبير، مع التأكيد على الحوار والنقاش العلمي الذي ينطلق من موقع التأمل والتفكير والمعرفة
كثر في هذه الأيام اتهام بعض الناس مخالفيهم في الرأي بـ«الرويبضة»، حيث يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدّق فيها الكاذب ويكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة».
ومع التغيرات والتطورات التي تمر بها المملكة اليوم، ظهرت محاولات فقهية تجديدية من بعض رجال الدين
تلقى معارضة ومقاومة شديدة من التيار الفقهي السائد، فعلى سبيل المثال يقول أحد الدعاة ما نصه: «الله أكبر إنها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ها هي تقع في زمننا هذا، فنحن نرى الرويبضة من الرجال وكذلك الرويبضة من النساء، كل منهم قد شحذ لسانه وأشهر قلمه وسخر فنه لا ليتحدث فيما يعنيه، بل ليتحدث في شأن الناس كلهم!! فهذا يتحدث عن شرائع الإسلام كالصلاة والولاء والبراء ونحو ذلك، وأخرى تتحدث عن حجاب المرأة وتهون من شأنه فتلوي عنق الآية والحديث وكلام أهل العلم ليساير هواها ويحقق مبتغاها».
وعلى هذا الأساس، فإن أي شخص يحاول إبداء رأيه في مسألة دينية أو ظهور فتوى دينية جديدة لا تتوافق مع الرأي الديني السائد، فإن الرد عليه سيكون بوصفه «بـالرويبضة»!، لنقع في دوامة الصراعات والاتهامات التي لا تنتهي، وبالتالي فإن أية فكرة أو نظرية جديدة سيكون مصيرها الموت، وأي حوار مفيد وبحث علمي سيكون محظوراً في مثل هذه الأجواء.
ولا شك أن وصف إنسان لآخر بعينه بالرويبضة، لخلاف معه بالرأي والفكر، وبخاصة إذا كان يستند في رأيه إلى مرتكزات ومعطيات علمية وعقلانية، ليس من الموضوعية في الحوار في شيء، بل هو اتهام وتجريح، ويتنافى مع المنهج العلمي، والذين يتخذون موقفاً سلبياً من النظريات الدينية الجديدة هم في الحقيقة يعوقون الحركة العلمية، ويقفلون باب الاجتهاد المفتوح.
كما أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة وعن الرويبضة، فيفهم من سياق الحديث أنه لا يتكلم عن إبداء الرأي أو عن النظريات الدينية الجديدة، لأن هذا حق مشروع لجميع الناس يقره الإسلام، وإنما الحديث عن خيانة الأمانة وإسناد الأمور إلى غير أهلها بسبب الفساد والظلم.
للأسف بعض رجال الدين يحتقرون الناس ويقسمون المجتمع إلى خاصة وعامة، وهذا التقسيم يعتمد على المبادئ التاريخية القديمة، وبالتالي فإن هؤلاء لا يرضون بغير اجتهادات المتخرجين من المؤسسات الدينية فقط، فضلا عن حرمان الناس من المشاركة وإبداء الرأي في المسائل الاجتماعية، وبالتالي الحرص على علو طبقة رجال الدين على الناس، وتقوية المكانة الاجتماعية لهم وإزاحة الخصوم المنافسين بسبب السلطة والسيطرة.
وليس هذا وحسب، بل ابتكر بعض الفقهاء عبارة «المعلوم من الدين بالضرورة»، وبناء على هذه العبارة يمنع الناس من التشكيك أو نقد الأحكام الفقهية، مع أنها نظريات بشرية، ويمنع أيضا إخضاعها للتحقق والفحص والمراجعة والتحليل في ظل التهديد بحكم الردة والاستتابة، وفي هذا الصدد يقول أحد الفقهاء: «الكفر اصطلاحا هو إنكار ما علم ضرورة مجيء الرسول به»، وبهذا يكفر تلقائيا من يحاول مراجعة أدلة ذلك المعلوم بالضرورة، أو من يقوم بتدقيق منهجيات العلوم الإسلامية، وقد حصل ذلك فعلا بين علماء الحديث أنفسهم، حينما كانوا ينعتون بعضهم بعضا بالمبتدعة!.
الخطاب الديني اليوم يثير العواطف ويدغدغ قلوب الناس بعيداً عن العقلانية والمنطق، وينفع فقط شريحة كبار السن والأميين وفئة من الشباب المؤدلجين العاجزين عن الفكر والتفكر، وفي مقابل هذا الخطاب هناك تفاسير ورؤى تجديدية تتحرك بآليات المنطق والتفكير العصري لا يؤخذ بها، ويتم التشويش عليها وقمعها وإقصاؤها باتهام أصحابها بالرويبضة وعلماء آخر الزمان.
وحتى في المناهج الدينية في المدارس، يتم تقديم آيات القرآن والسيرة النبوية إلى الطلاب بشكل تاريخي جامد بدون أن يتم تحويلها إلى لغة وخطاب عصري حديث، ومفاهيم جديدة لكي يفهم الناس روح هذا الخطاب الديني، ثم يطالبون الناس باتباع هذا الخطاب الذي لا يفهمون مضمونه!.
إن احتكار المعرفة الدينية والاقتصار على أحكام فقهية واحدة وقديمة، ومنع الأفكار والنظريات الجديدة، يؤديان في النهاية إلى سد باب الاجتهاد الواقعي ومزج الدين بالقوة والعنف، وهذا لا يصب في مصلحة العلم ولا في مصلحة الدين ولا في مصلحة المجتمع.
والمرحلة الجديدة التي نعيشها اليوم أثارت علامات استفهام على مجمل الخطاب الديني، وأفرزت أسئلة كثيرة تتصل بالمفاهيم الدينية، الأمر الذي أدى إلى وجود فئات من المسلمين تتحرك بقصد الكشف عن الحقيقة، ولهذا نحن بحاجة إلى تنوير إسلامي، أو بعبارة أخرى حداثة إسلامية إن صح التعبير، مع التأكيد على الحوار والنقاش العلمي الذي ينطلق من موقع التأمل والتفكير والمعرفة الواسعة بالعلوم البشرية، في إطار زاخر بالاحترام والمحبة بين جميع الأطراف.