تقرير التنمية الثقافية الثالث لعام 2009 الصادر عن 'مؤسسة الفكر العربي'، الذي أطلقه الأمير خالد الفيصل بيروت في الأسبوع قبل الماضي، كان علامة بارزة في ضرورة إشراك السياسيين، وصُنّاع القرار في العالم العربي بقضايا الثقافة العربية

-1-
بعد النصف الثاني من القرن العشرين، ونيل معظم البلدان العربية الاستقلال، ظهرت موجة من الانقلابات العسكرية. كان المبدأ العام السائد، أن الدبابة وفوهة البندقية هي الطريق إلى السلطة. وبذا، بدأ ترسيخ العنف في العالم العربي، على ما تقوله الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت في كتابها (في العنف). ونتج عن ذلك، وخاصة بعد هزيمة 1967 العسكرية، بدء ظهور الجماعات الدينية المسلحة، انطلاقاً من رحم التنظيم السري لـجماعة الإخوان المسلمين، الذي بدأ نشاطه الإجرامي عام 1948 الذي اغتال رئيس وزراء مصر النقراشي باشا 1948، والقاضي أحمد الخزندار، ومدير أمن القاهرة (الحكمدار) اللواء سليم زكي وغيرهم. وتفجير أشهر محلات بيع التجزئة في قلب العاصمة المصرية. ثم انتشار العنف والإرهاب بعد العام 1991، وهو عام عدوان صدام الغاشم على شرق السعودية والكويت. وبلغت ذروة الإجرام الإرهابي في كارثة 11 سبتمبر 2001.
-2-
ولكن، يبدو أن هناك قناعة عربية علمية وتاريخية، توصَّل إليها حكماء العرب القلائل هذه الأيام، تضع الإصبع على الجرح، وذلك بتبنيها الحل الثقافي للمشكل السياسي. ويحضرني في هذا المقام ما قاله أستاذنا الفيلسوف المصري المعاصر مراد وهبة من أن السلطة الثقافية في العالم العربي، أصبحت ضرورة وحيوية مثلها مثل السلطات التنفيذية، والقضائية، والتشريعية، والصحافية. ولكن الأهم من ذلك ـ في رأينا ـ ليس السلطة الثقافية لحل مشاكل العالم العربي المعقدة، ولكن وجود (السيو ـ ثقافي)؛ أي وجود السياسي المثقف، القادر على تبني ورعاية ونشر التنوير الثقافي.
فنحن لسنا بحاجة إلى أن يكون المثقف سياسياً، ولكننا بحاجة إلى أن يكون السياسي مثقفاً. فالسلطة الثقافية التي اقترحها مراد وهبة، يمكن أن تكون حلاً لبلد كمصر، قطع شوطاً كبيراً منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الآن في النهوض الثقافي، وتكونت لديه حصيلة ثقافية متراكمة، يمكن أن تتحول إلى سلطة ثقافية، ولكن مصر في ذات الوقت بحاجة لحل (السيو ـ ثقافي) أي إلى السياسي المثقف، أو السياسي الواعي لدور الثقافة في بناء المجتمع المدني في الدولة. ومثاله القريب فاروق حسني وزير الثقافة المصري لأكثر من عشرين عاماً، ومثاله الكبير أيضاً محمد علي باشا (1769-1849) الذي استطاع بناء نهضة مصر الحديثة، بانفتاحه الثقافي المدهش، وتبنيه للبعثات التعليمية إلى الغرب.
-3-
لقد تهيّأت في العالم العربي مراكز أبحاث ومؤسسات فكرية متعددة في مجالات مختلفة. ولكن معظم هذه المراكز ظلت بعيدة عن مراكز صُنع القرار العربي. وبعبارة أخرى، فقد بقيت الهوة التي تحدث عنها عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم في كتابه (المثقف والأمير: تجسير الفجوة بين أصحاب الأفكار وأصحاب القرار، 1985) قائمة إلى الآن. والحل لهذه الإشكالية هو إشراك السياسيين من أصحاب القرار وصُنّاعه في نشاطات مراكز الأبحاث هذه، لكي يحملوا نتاج هذه الأبحاث إلى المجتمع المفتوح، ويطبقوها على أرض الواقع. كما هو الحال الآن في أمريكا فيما يتعلق بمراكز الأبحاث، التي يطلق عليها Think Tanks. وبدون هذه الخطوة المهمة سوف تظل أبحاث مراكزنا الثقافية طي الأدراج، يتهامس بها المثقفون والنخبة همساً، في مجالسهم المختلفة، والضيقة جداً.
-4-
الثقافة ليست حكراً على المثقفين النخبة فقط. ولا يجب أن تكون كذلك، كما اشترط أفلاطون في الأكاديمية. وكان سقراط قد عارض ذلك منذ آلاف السنين، ودفع حياته ثمناً لذلك، عندما نزل بالفلسفة إلى الشارع، ليحاور العامة، وينشر أفكاره بينهم. فالثقافة يجب أن تكون للجميع، وخاصة سواد الناس وعاميتهم، إذا أردنا الانتشار الواسع والسريع لها. وهو ما يحرص عليه الكتّاب الليبراليون السعوديون، ممن يكتبون في الصحافة اليومية عن كافة مشاكل الحياة، مما كان له الأثر الكبير في المجتمع السعودي والحياة السعودية الجديدة.
ولو كان فولتير وروسو ومونتسكيو وكانط وهيجل وغيرهم يعيشون بيننا الآن، لما اكتفوا بنشر أفكارهم في كتبهم، وعلى منابر خاصة، ولقاموا بنشرها بين العامة في الصحافة اليومية، وعلى شبكات الإنترنت. كما نفعل نحن اليوم. أما عن عائق الأميّة المنتشرة في العالم العربي بنسب كبيرة، فلن تكون الأميّة عائقاً في وجه نشر الثقافة بين العامة، مع وجود وانتشار الفضائيات والسمعيات والثورة المعلوماتية الآن، التي نشهدها، والتي ألغت دور الكتاب في أن يكون مصدر المعرفة الأول والأخير. فهناك الآن مصادر مختلفة للمعرفة، تناسب المتعلم والأُمي في الوقت نفسه. ووصول الثقافة لهؤلاء لن يتأتى إلا بسلطان يؤمن بالحل الثقافي، لكي ينشر بسلطته الثقافة التنويرية.
وهنا ـ في المملكة ـ كانت السنوات الخمس الأخيرة، خير شاهد على دور السياسي المثقف، وما أحدثه هذا السياسي من تطوير وتغيير في الحياة السعودية عامة. فابتعاث حوالي 100 ألف طالب للدراسة في مختلف جامعات العالم، وفي مختلف التخصصات (وهي أكبر حملة ابتعاث تعليمي في التاريخ)، وإصلاح بعض المناهج التعليمية، وبناء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست)، وتعيين امرأة ـ لأول مرة ـ في منصب وزاري مهم في وزارة التربية والتعليم، وزيادة هامش الحرية والنقد العام البناء في الصحافة السعودية، وتخفيف الرقابة عن كتب معارض الكتاب السنوية، وإتاحة الفرصة للقارئ السعودي لكي يقرأ ما لم يقرأه من قبل قط.
وغير ذلك من المؤشرات الثقافية الكثيرة. كل ذلك كان بسبب قرار السياسي المثقف، وليس بسبب وجود المثقف السياسي. فالمثقف السياسي؛ أي المثقف العامل والناشط في المجال السياسي موجود منذ أكثر من قرن في العالم العربي وحتى الآن، ولم يفعل شيئاً يذكر. ولكن عندما وُجد السياسي المثقف حصل التنوير، وحصل التطوير، وحصل التغيير، وانفتحت الآفاق المغلقة، واتسعت.
-5-
تقرير التنمية الثقافية الثالث لعام 2009 الصادر عن مؤسسة الفكر العربي، الذي أطلقه الأمير خالد الفيصل في بيروت في الأسبوع قبل الماضي، كان علامة مهمة وبارزة في ضرورة إشراك السياسيين، وصُنّاع القرار في العالم العربي بقضايا الثقافة العربية، ومحاولة ردم الهوة بين أصحاب الأفكار وأصحاب القرار، التي انطلقت منذ العام ،1985 ووجدت اليوم في مؤسسة الفكر العربي التجاوب، من خلال مشاركة بعض السياسيين في هموم الثقافة العربية كحمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الثقافة القطري ورئيس مجلس وزراء الثقافة العرب، ووزير الإعلام اللبناني طارق متري. وبهذا، لن يكون تقرير التنمية الثقافية الثالث في العالم العربي مجرد حبر على ورق، وموجهاً للخاصة من المثقفين فقط. ويبقى دور الإعلام مهماً جداً في هذه المسألة. فمن الملاحظ، أن حجم التغطية الإعلامية لكافة نشاطات مؤسسة الفكر العربي، وغيرها من المؤسسات الثقافية الأخرى، صغير جداً ومخجل، قياساً لحجم نشاطات هذه المؤسسات. وهذا ما أشار إليه الأمير خالد الفيصل في كلمته التي أطلق بها التقرير الثالث للتنمية الثقافية، حين قال: نرجو أن يحظى هذا التقرير بالدراسة والنقد والتحليل. ونريد ممن يقرأ هذا التقرير أن يساعدنا على تحليله. (وللموضوع صلة)