كثير من المستشفيات خارج المدن الكبرى لا تصلح للتدريب، لضعف الكادر الطبي وتهالك بنيتها التحتية
قال «لي كوان بو» الذي اشتهر بأنه مؤسس دولة سنغافورة، وناقلها من العالم الثالث إلى الأول خلال أقل من جيل: «أظن أنني لم أقم بالمعجزة في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي، فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلم من الطبقات الدنيا في المجتمع إلى المكان اللائق بهم، وهم من صنعوا المعجزة التي يعيشها المواطنون الآن، وأي مسؤول يحب بلده ويهتم بشعبه كان سيفعل مثلي». لن أَجِد أفضل من هذه الكلمات الملهمة للتحدث عن التعليم مفتاح تطور الشعوب ورقيها وحضارتها، ويظل التعليم الطبي من أحد أهم مجالات التعليم، حيث يقضي الطبيب سنوات عدة لاهثا وراء حلم (البالطو الأبيض)، متخيلا أنه أصبح (أبوقراط) زمانه، ولكنه بعد التخرج يكتشف أن المشوار ما زال بعيدا، وأنه بحاجة إلى الإمضاء والحصول على شهادة التخصص (الدكتوراه) أو ما يعرف بـ(الزمالة) أو البورد، ومن ثم يذهب البعض إلى الحصول على (زمالة) أخرى وتخصص دقيق، ويمتد الطموح ببعضهم للحصول على أكثر من تخصص رغبة بالتميز، وشغفا بخدمة المريض.
يعتبر الكثير من الأطباء القبول في برامج (الزمالة) جسر الأحلام للعبور إلى مغامرة قد تمتد ما بين 3-6 سنوات، حسب التخصص وحسب الدولة التي تم القبول فيها لبرنامج الزمالة، وقد تمتد ما بين 8-10 سنوات إذا ما احتسبنا سنوات التخصص الدقيق، ولكن ذلك الجسر مكتظ بالأطباء والعبور منه ليس بالأمر السهل نتيجة التنافس العالي. حسب أحد المقالات المنشورة بتاريخ 17/ 3/ 2016 أشارت الأرقام إلى قبول أكثر من 29 ألف طبيب متقدم لبرامج الزمالة بالولايات المتحدة الأميركية، وفقد حوالي 8460 طبيبا فرصتهم لعبور ذلك الجسر، ولم يجدوا أي قبول لبرامج الزمالة لامتلاء المقاعد التدريبية، وتلك الظاهرة موجودة بكندا أيضا حتى تم تقليص المقاعد للمبتعثين من دول الشرق الأوسط بالجامعات لإعطاء الفرصة المتخرجين من الجامعات الكندية، وذلك بعد تنامي الأصوات المعارضة لعدم حصول الكنديين على فرص تدريبية.
محليا، بلغ مجموع عدد المتقدمين لشهادة الاختصاص بالهيئة السعودية للتخصصات الصحية لعام 2017 نحو 6338 طبيبا مقارنة بـ5153 طبيبا وطبيبة لعام 2016، تم قبول 3403 منهم بنسبة 53 ? مقارنة بنسبة 51 ? للعام السابق و2210 أطباء للعام الذي يسبقه.
من حق الطبيب الحصول على مقعد تدريبي مناسب، ومن حق الهيئة السعودية ضمان جودة التدريب بالمراكز الطبية، وهذا يعني وجود الهيئة حاليا بين (مطرقة) المطالبة بمقاعد أكثر للتدريب وبين (سندان) المحافظة على جودة ومنتجات التدريب وعراقة (البورد) السعودي، وتساؤلي البسيط هل تتحمل الهيئة السعودية هذا الإرث الكبير وحده؟
وللإجابة عن السؤال السابق يجب معرفة ما هو دور الهيئة السعودية بالتدريب، حيث تعمل الهيئة عمل القاضي والحكم على جودة المستشفيات والمراكز الطبية وأهليتها لتقديم التدريب الطبي، ومما لا شك فيه أن كثيرا من المستشفيات خارج المدن الكبرى لا تصلح للتدريب، لضعف الكادر الطبي وتهالك البنية التحتية للمستشفيات، وحتى المدن الرئيسية فهناك مستشفيات لا تصلح إطلاقا للتدريب، وذلك لرداءة الخدمة الطبية فـ(فاقد الشيء لا يعطيه)، وذلك ليس ذنب الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، بل هو نتيجة تراكم أخطاء وسنوات (الضياع) السابقة لبعض المستشفيات.
إستراتيجيا، بنت الهيئة السعودية للتخصصات الصحية اسما لامعا لمخرجات البورد السعودي على مدى ربع قرن من الزمان، وذلك كعملها كقلعة حصينة تحمي وتجهز وتبني لجودة الممارس الصحي السعودي، ومن أجل استمرار ديمومة قبول الأطباء السعوديين وعدم تكدس المخرجات نقترح الآتي:
1- التوسع ببرامج التدريب بالقطاع الخاص، فأعظم مستشفيات العالم التدريبية مثل جون هوبكنز ومايو كلنك وكليفلاند كلنك هي مستشفيات قطاع خاص وليست حكومية.
2- مكافأة القطاع الخاص المشارك بالعملية التدريبية، وذلك برفع سعر شراء الخدمة بنسبة معينة كمحفز لهذا القطاع الحيوي.
3- ربط تجديد الرخص الطبية للقطاع الخاص والحكومي بتوفير مقاعد تدريبية للأطباء السعوديين بالتخصصات التي يحتاجها سوق العمل السعودي.
4- درجات أكاديمية ومكافآت مالية للمدربين لتحفيزهم على بذل مجهود أكبر بالعملية التعليمية.
أخيرا وليس آخرا علينا دعم الهيئة السعودية التي أفخر شخصيا بإنجازاتها المستمرة بمجال التعليم الطبي التي أعطت البورد السعودي مكانة (عالمية)، ولها كل الحق في رفع شعار (الكيف) وليس (الكم)، وأرفع لها (القبعة)، وأدعو المجلس الصحي السعودي إلى تبني خطة عاجلة لرفع الجودة الطبية بالمستشفيات التي لا يوجد فيها تدريب طبي، وإلى تبني القطاع الخاص لإيجاد مقاعد عالية الكفاءة لتدريب الخريجين من أبنائنا وبناتنا عماد الحاضر والمستقبل الطبي السعودي.