كانت واحدة من اللحظات اللامعة في تاريخ التلفزيون السعودي، قبل خمسة وثلاثين عاما، تلك المقطوعة الموسيقية التي تبث من حين لآخر، بينما تظهر في الشاشة مشاهد عديدة لصورة المجتمع الطيب، تلك الأيام، بنات وأولاد صغار يركضون جيئة وذهابا، بأحد الأحياء، بائع شاي جالسا على الأرض، أمامه نيرانه وأباريقه الكبيرة، على مقربة منه طفلة بأقل من خمس سنوات تنظر بانبهار للكاميرا، دراجة هوائية لأحد الأطفال، تمر بسرعة ومرح، كنا نسميها «البسكليت»، سيارات بموديلات قديمة، لم نعد نراها، والعدسة تتابع من بينها سيارة مزركشة بأشرطة الزفاف، من نوع «كابريس»، والتي كانت أكثر المركبات رفاهية في ذلك الوقت، تعبر من بين البيوت، وينزل منها شخص متجها لأحد البيوت، وفي استقباله أهل العروس. بالطبع لن تكون تلك المقطوعة الجميلة إلا للموسيقار الكبير سراج عمر، من أغنيته الشعبية «على البديوية». كان سراج واحدا من نجوم تلك الأيام الكبيرة والبسيطة والصادقة، كان يشبه الناس والناس يشبهونه، كما هي العلامة الفارقة للفنان الخالد دوما، أعاد توزيع النشيد الوطني، ولحن نشيد «منار الهدى» الشهير، وفتح لأجمل شعراء وفناني زمنه ألحانا من القلب والعيون، وجالت أغنياته «مقادير»، «أغراب»، «مرتني الدنيا» وغيرها مسارح الوطن العربي والعالم، ثم لما تغيرت الأحوال وتبدل الزمن، وعلت الكراهية والعقول والنفوس المغلقة، دخل هو بيته، وأغلق على نفسه الباب، غرق الفنان ذو الرهافة الإنسانية العالية في الكآبة، ولم ينتظر الفقر والمرض طويلا كي يلحق بكيانه الهزيل، ثم لم يخرج منذها إلا قبل أيام قليلة، لكن إلى مرقده الأخير، عن اثنين وسبعين عاما، وأقيم له عزاء كان يستحق أكبر منه بكثير.
يبدو أن هذه هي السنوات التي تأكل ما تبقى من ذاكرتنا الغضة، والأيام الجميلة، ففي أقل من ستة أشهر ذهب هؤلاء العمالقة دفعة واحدة: إبراهيم خفاجي، أبوبكر سالم، أبومسامح محمد المفرح، وأخيرا سراج عمر، وباستثناء خفاجي الذي منح وسام الملك عبدالعزيز، وأبوبكر الذي تم تقديره بخمس دقائق على المسرح، ومن هيئة الرياضة، فجميعهم لم يحصلوا على التكريم اللائق في حياتهم، مثلهم مثل من راحوا من قبل!
هناك في العالم البعيد القريب، كان الشاعر التشيلي نيكانور بارا قد رحل للتوّ أيضا، بعد مائة وثلاث سنوات من العمر. تشيلي قبل ثلاث سنوات احتفلت بميلاده المائة، طبعت قصائده من جديد، وكتبت كلماته في كل زاوية «الرجل الوهمي، يعيش في قصر وهمي، محاطا بأشجار وهمية»، وعند وفاته، قبل أسبوعين، أعلنت نعيه والحداد عليه رسميا لثلاثة أيام. الرحمة للجميع.