تأخر ملكة فرنسا ماري أنطوانيت لدقائق عن ركوب عربة الهروب بسبب كبريائها، كلفها رقبتها. تأخر ثعلب الصحراء الألماني روميل في حفلة عيد ميلاد زوجته كلفه خسارة حرب مقاطعة نورمندي في الحرب العالمية الثانية.
لكن تأخر اللورد مايكل بيتس (Michael Bates) لدقائق يوم الأربعاء الماضي عن اجتماع المجلس الأعلى في البرلمان البريطاني، جعله يقدم استقالته مع تقديم خطاب اعتذار عميق، وبمشهد درامي غادر وأعضاء المجلس ينكرون ويستهجنون تصرفه.
المعروف عن المجتمع الإنجليزي، صغارهم قبل كبارهم، تقديسهم الشديد لحرمة الوقت، لكن هل تأخر مايكل فعلا يستحق هذه التضحية؟
بإجابة بعقل عربي في الوضع الراهن طبعا لا، فلا يوجد مسؤول كبير أم صغير صاحب سُلطة سيفعل ذلك. لكن ما تجهله الثقافة العربية أن تأخر مايكل يعتبر عبئا على الدولة، وقد يكلفها ويقلل من شأنها، وهذا ما قاله في خطاب الاستقالة «أنا دائما أؤمن أنه يجب أن ننشأ على أعلى درجات التهذيب والاحترام للاستجابة لمصلحة الحكومة».
التأخير لدقائق قد يؤثر في المصير، سواء كان اقتصاديا أو حربيا أو دوليا. التاريخ يخبرنا بذلك.
مباراة شطرنج للقائد العسكري الألماني جوهان رال (Johann Rall) كلفته خسارة الحرب الثورية في أميركا ضد جورج واشنطن وجيشه. انشغال جوهان في تحريك الجنود على أرض الشطرنج جعله يتجاهل رسائل الاستخبارات عن تقدم جنود جورج على أرض الواقع، فعمل جورج كش ملك (checkmate) لجوهان برصاصة في صدره.
مفهوم مايكل بيتس كان أنه من العار عليه كرجل دولة أول أن يتم توجيه أسئلة له وهو ليس في مكانه ليجيب عنها. فكيف ستسير أمور الدولة إذا كان رأس الهرم ليس موجودا؟. شعوره بالعار والإحساس بالذنب جعله يتنازل عن منصبه الوزاري، إحساسا منه بأنه ليس أهلا له. لو أن جزءا من ذلك الشعور يطالنا على الأرجح لن يظل موظف في منصبه بالشرق الأوسط.
بالرغم من أن بيئة السياسة والمناصب العليا عموما لا تخلو من بيع الذمم واستغلال المناصب للمصالح الشخصية، وأن الانسحاب يأتي منهم بعد فوح رائحة فضيحة أو إقالة جبرية ومحاكمة، إلا أن انسحاب مايكل انتشر على أنه عمل بطولي، وخارج من حس وطني كبير. فشبهت حسابات ساخرة إيطالية وإسبانية وغيرها فعل مايكل بفعل وزراء وسياسيي بلادهم.
لكنه ليس بالانسحاب البطولي الأول، فانسحاب القنصل الروماني «سينسيناتوس» من حكومة الدولة جعل منه رمزا يفتخر فيه الرومان كقائد متواضع خادم للبلاد وليس للمصالح الشخصية.
سينسيناتوس الذي غادر مزرعته بطلب من الإمبراطور ليقود جيشا حقق أعظم انتصارين للإمبراطورية الرومانية، ليعود بعدها إلى مزرعته مذيبا سيفه ومحولا إياه إلى محراث.
تنازله عن جميع مناصب الإمبراطورية التي عرضت عليه جعل منه قائدا نادرا، فطبعت صورته وزوجته على العملات، ونصبت له المنحوتات حول العالم تكريما له. فلسفة مايكل وسينسيناتوس بعيدة عن التطبيق حاليا في ثقافاتنا، لكنها ليست بمستحيلة