مشكلة البنوك السعودية أنها وضعت قائمة شبه معروفة بأسماء من ستقرضهم بكل مرونة، والباقي شبه «انسى!»، حتى الأشخاص أو الكيانات الجديدة التي تنضم للقائمة تكون مرتبطة بالقائمة الأساسية

«الثروة الحقيقية لا تقاس بالمال أو بالوضع أو السلطة. ولكن تقاس بإرث نتركه وراءنا لأولئك الذين نحبهم، والذين نكون نحن مصدر إلهام لهم» سيزار شافيز (القائد العمالي الأميركي).
عندما نقول إن البنوك السعودية حاليا تغص بـ(الفلوس) فإننا لا نستخدم هذا التعبير مجازا، بل شبه واقع، حاليا السيولة في البنوك السعودية مرتفعة جدا، وقنوات تصريف الأموال قلّت، خصوصا بعد التغييرات الهيكلية في البلد، قلّت المشاريع، وقلّت فرص التمويل، بالإضافة إلى مرحلة الترقب التي حدثت، مما أوجد تخمة مالية لدى البنوك، وغصة من كثرة الأموال!
البنوك أصبح لديها دوري تنافسي وشبه جولات بين بعضها، وتنافس على التجار، كثير من البنوك يحاول إغراء كبار تجار البلد (قفل قرضك مع البنك الفلاني، وأنا أعطيك قرضا بفائدة أقل وشروط أفضل!).
طبعا يعتقد القارئ أن هذا شيء جميل، التنافس على العميل، وذلك يبدو ممتازا للتنافسية، لكن الواقع أن التنافس محصور جدا في أضيق الحدود، التنافس على العميل، لكن ليس أي عميل.
مشكلة البنوك السعودية أنها وضعت قائمة شبه معروفة بأسماء من ستقرضهم بكل مرونة، وكل وجه طلق، والباقي شبه «انسى!»، حتى الأشخاص أو الكيانات الجديدة التي تنضم للقائمة تكون مرتبطة بالقائمة الأساسية، فلو نظرنا إلى قائمة رواد الأعمال الذين تمت مساعدتهم من البنوك لوجدنا أنهم أقارب وأبناء التجار، ويقال عنه عصامي!
البنوك عندنا تقليدية وليست تقليدية! تقليدية لأنها لا ترحب بالأفكار الجديدة المبتكرة، بل كل المشاريع الجديدة (جي إف) لا تحب الاقتراب منها، لكن غير تقليدية وهذا الأسوأ، أن البنوك حول العالم تضع نسبة معينة للمشاريع المبتكرة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بينما بنوكنا في شبه رفض لتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة، والشروط تعجيزية.
ناقشت أكثر من رجل أعمال ومسؤولي بنوك كبار كأصدقاء وكاجتماعات، وهم يعرفون جيدا هذا الوضع، ويعرفون الوضع في البنوك الأجنبية بكل تفاصيله، لكن هناك شبه إجماع، وسمعتها من كبار رجال الأعمال في البلد والبنوك، على أن (هذه ليست مسؤوليتنا، بل مسؤولية الحكومة لدعم الشباب والمشاريع الجديدة)، لا يريدون تحمل أي مخاطرة كانت، أصبح سوق التمويل في المملكة ناديا مقفل العضوية، هم نظرتهم «ليه نعرض حلال عيالنا لناس يتعلمون فيه؟»، يقول أحد الأصدقاء لي: أنتم تنظرون إلى الموضوع ككتاب وكمساعدة الشباب وخدمة وطنية، ونحن نحسبها بالريال.
مع أن الأفكار الجديدة، كما هو معروف، أرباحها قد تصل إلى عشرات الأضعاف لأن السوق لم يمتلئ منها بعد، لكن التجار يفضلون الأمان، فأرباح 15 % في مجال معتاد أفضل لديهم من أرباح 800 % في مجال جديد ناشئ، ومهما تحاول التعديل تبقى العقلية نفسها، لكن دعونا نأخذها من عدة زوايا:
الزاوية الأولى: حلال عيالي، صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وقصة مقاتل بن سليمان الشهيرة هي مثال، فإن عمر بن عبدالعزيز أنجب أحد عشر ولدا وترك ثمانية عشر ديناراً، كفن بخمسة دنانير، واشتُريَ له قبر بأربعة دنانير، وَوزّع الباقي على أبنائه، وهشام بن عبدالملك أنجب أحد عشر ولدا، وكان نصيب كلّ ولدٍ من التركة مليون دينار، يقول مقاتل، رحمه الله: والله يا أمير المؤمنين
قد رأيت في يومٍ واحدٍ أحد أبناء عمر بن عبدالعزيز يتصدق بمئة فرس للجهاد في سبيل الله، وأحد أبناء هشام يتسول في الأسواق! وقد سأل الناس عمر بن عبدالعزيز وهو على فراش الموت، ماذا تركت لأبنائك يا عمر، فقال: تركت لهم تقوى الله، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى.
الزاوية الثانية: نأخذها من جهة (البزنس)، تقريبا كل المليارديرات الحاليين في العالم أتوا من صناعة جديدة أو مجال جديد أو أسلوب جديد، أمازون، مايكروسوفت، إيكيا.. إلخ، بل إن تقدم الشعوب والحضارات والأمم يعتمد على الجديد المبتكر وليس المعروف.
الزاوية الثالثة: التاريخ يعلمنا أن التجار السعوديين الأوائل دخلوا تجارات جديدة على مجتمعهم، وبرعوا فيها وأصبحوا سادتها، تجارة اللؤلؤ وتجارة المواد برعوا فيها، تجار عنيزة في البحرين مثلا، رغم أنهم أتوا من وسط الصحراء، إلا أن التاريخ يثبت أن التجار الذين بقي اسمهم محفورا في التاريخ هم من خلدوا وأسسوا لهم إرثا وساعدوا الآخرين وكان عملهم مؤسساتيا، وأنا متأكد أن هناك من هو أغنى منهم من تجار السعودية في ذلك الوقت، لكن لا أحد يعرف عنهم، وهذا الفرق بين من أصبح غنيا وربح وكوّن إرثا، وبين من جمع المال من باب (حلال عيالي).
لذلك أتمنى من الحكومة، والتي إحدى أهم جواهر رؤية 2030 هي دعم القطاع الخاص وتوسيعه ودعم الإبداع والابتكار، أن تفعّل إحدى حاجتين، إما أن تنشئ بنكا خاصا لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والرياديين الحقيقيين، وليس أولاد التجار، أو تجبر البنوك من خلال نفوذها بجعل نسبة تمويل معينة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وأعرف أن السوق السعودي سوق حر والحكومة لا تتدخل بالبنوك، لكن لا شيء تخشاه البنوك مثل نفوذ الحكومة، لأنها الداعم الأول لهم، أما ما تفعله هيئة المنشآت الصغيرة والمتوسطة من حاضنات ومسرعات ودورات - وبالرغم من أهمية ذلك-، إلا أن الأهم والأهم جدا الذي يعتبر شريان الحياة للاقتصاد، هو التمويل والمال.