بعض الجامعات وضعت برامج تدريبية تذهب بها إلى المؤسسات والشركات، وتدرب الموظف خلال العمل، ولكن ما تقدمه وثائق حضور أو خبرة، وليس شهادات تؤدي إلى إكمال البكالوريوس

نحن نعيش الثورة الصناعية الرابعة؛ وهي عبارة عن مجموعة من التكنولوجيات الجديدة التي تجمع بين العوالم المادي والرقمي والبيولوجي، وتؤثر على جميع التخصصات والاقتصادات والصناعات، فماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أن العالم يتغير بسرعة فائقة من حولنا، بحيث لا يمكن تفادي تأثيراته في حياتنا اليومية، وهو أمر قد يخيف البعض، ولكن إن تعلمنا شيئا من الثورات الصناعية التي كانت قبلها، تعلمنا أنه إن لم تتمكن الصناعات والشركات من التكيّف والمجاراة للتكنولوجيا الحديثة فسوف تتعثر، وقد تفشل وتندثر! المهم هنا إن لم نُعِدْ تشكيل طرق تفكيرنا فلن نستطيع أن نتطور وننتج، بل إننا نحكم على مجتمعاتنا بالفشل! نعم الذكاء الاصطناعي يسهم في تحويل العمليات إلى إنجاز بأقل الوقت والتكاليف والمجهود، لكنه لن يأخذ مكان الإنسان، فالعالم بحاجة دائمة إلى الذكاء البشري من براعة ومهارة وخبرة، نعم قد تسهم الآلات في تقديم المعلومات التي توصلنا إلى التبصر ووضوح الرؤية التي نحتاجها كي نتوصل إلى حلول للتحديات التي تواجهنا، ولكن لن تكون لديها القدرة على الحكمة أو الإبداع اللتين هما من سمات البشر، قد تستطيع الآلات أو الروبوتات أو البرامج أن تعكس المشاعر وتتعامل معها، ولكن لن تستطيع أن تشعر بها وتتفاعل معها، والتعامل غير التفاعل عندما يتعلق الأمر بالمشاعر الإنسانية. إذًا الثورة الصناعية الرابعة المتمثلة في الذكاء الاصطناعي تعتبر تهديدا إن لم يتم التعامل معها كفرص للتطور وتوفير الرخاء والأمان والاستدامة للمجتمعات، وبالنسبة لنا في التعليم العالي ينطبق الأمر ذاته.
ومن الواضح أن الكثير من الوظائف والمهن التي نعرفها سوف تختفي لتظهر مكانها وظائف ومهن جديدة، تماما مثلما حدث مع ظهور الثورات الصناعية الفائتة، حتى مفهوم الوظيفة الدائمة أصبح من الماضي، الشركات تتغير والصناعات أيضا ومعها تتغير المجتمعات، وهنا يأتي دور مؤسسات التعليم العالي، ألا وهو إعداد وتثقيف الطلبة من أجل حياة دائمة التغير، فكيف سنقوم بذلك؟ هل بالاستمرار في الطرق الحالية التي نقدم بها البرامج؟ بالطبع كلا! ما كنا نركز عليه في السابق هو المعلومات العامة في مجال التخصص بدون تدريب، وإن وجد ذلك فيكون ضمن حدود زمن ضيق جدا نظرا لما تحتاجه الخبرة الإنسانية للتعلم والتكيف، وما نحتاجه اليوم هو التركيز على كيفية التعامل مع التكنولوجيا، إضافة إلى كيفية التعامل مع البيانات، المعلومات يمكن التوصل إليها من أي مصدر معلوماتي على الشبكة العنكبوتية، ولكن التدريب على كيفية التعامل مع التكنولوجيا وتحليل وتفسير البيانات يحتاج إلى تدريب وخبرة، كما نحتاج إلى تدريبهم على التكفير الإبداعي لخلق مفاهيم جديدة وأفكار جديدة ومبادرات جديدة، القدرة على التكيف والتعامل مع الثقافات المختلفة للانتقال من المحلية إلى العالمية والاندماج مع الشركات العابرة للقارات، والتميز للوصول إلى المراكز القيادية فيها، وليس هذا فقط، بل التميز لدرجة المساهمة في تقدم الإنسانية حضاريا وفكريا وصناعيا. قد تختار المؤسسات التعليمية أن تستمر في تقديم برامجها التأهيلية التي تمتد من سنتين إلى أربع سنوات، يقضيها الطالب داخل الحرم الجامعي، وقد تختار أخرى أن تقطع ذلك من خلال التمييز بأن تبدأ من تأهيل الطالب بالضروريات التي يحتاج أن يعرفها ويتقنها قبل أن يلتحق بوظيفة تدريبية، يقضي فيها فترة قد تمتد من ستة أشهر إلى سنة، بالاتفاق مع الجامعة التي سجل بها وتتم المتابعة والتقويم، هنا تكون قد جعلت المتعلم يبحر في عالم الخبرة ليتدرب ويختار أي جزء من المعرفة يرغب فيه، وأيا منها لا يرتاح إليه ولا يرى ذاته من خلاله، ومن ثم يعود بأفق أوسع وتفكير جديد يسهم في العملية التعليمية لأنه سيسأل وسيقيّم كل ما يقدم له من حيث الترابط مع الوظيفة أو المهنة، ومن حيث الملاءمة والاحتياج، وأيضا تستفيد الشركات المساهمة في التجربة أنها تتعرف على ما يقدم في مؤسسات التعليم العالي، وتضيف أو تطالب باختزال ما يقدم لتمكين المتعلم من الاندماج والإنتاج والاستمرار في التعلم، وهنا نكون قد خدمنا المتعلم وسوق العمل في وقت واحد بأنه لن تعود تشتكي الشركات من قلة خبرة الخريجين وعدم ملاءمتهم للوظيفة عندها.
ما سبق كان بالنسبة للطلبة الجدد، أما بالنسبة لمن هو على رأس العمل فلم يعد يستطيع أن يستقطع وقتا للتسجيل في برنامج سنة أو سنتين، فقد يخسر وظيفته خلال ذلك، أو تخسره المؤسسة، لأنه قد يختار أن ينتسب إلى غيرها بعدما تحصل على شهادة أعلى بعقد عمل أفضل، هنا بعض الجامعات فتحت برنامج الانتساب، ولكنه يظل دون المستوى المطلوب خصوصا بالنسبة للمشاركة والخبرة العملية، وبعض الجامعات وضعت برامج تدريبية تذهب بها إلى المؤسسات والشركات وتدرب الموظف خلال العمل، ولكن ما تقدمه وثائق حضور أو خبرة، وليس شهادات تؤدي إلى إكمال برنامج مثل البكالوريوس، ما تستطيع أن تقوم به المؤسسات التي تفكر في التمييز والاستثمار في سوق العمل هو أن تقدم برامج متقطعة من ستة أسابيع، تمكن المتعلم وهو على رأس العمل من الاستمرار حسب أوقاتهم إلى أن تتجمع الوثائق التي توصلهم إلى شهادة بكالوريوس، وبهذا تصبح المؤسسات في قلب الشركات تسهم في ارتقائها وتتفاعل معها وتجمع ما تحتاجه وتعدل برامجها للطلبة الجدد أيضا.
كل ما سبق من أفكار عن تحديث برامج التعليم العالي وجدتها في محاضرة للدكتور جوزيف عون مدير جامعة نورث ايسترن في أميركا، حيث وضح خلالها العوامل الخارجية التي تؤثر على مؤسسات التعليم العالي في تحديد المسار، وعرض في نهايتها إستراتيجية الجامعة للسنوات العشر القادمة؛ وظهر فيها التركيز على بناء شبكات داخلية وعالمية مع الشركات والمصانع والمؤسسات الخدمية، شبكات لإتاحة التعلم مدى الحياة، شبكات لتسهيل الاكتشاف الذي يجعل المتعلم أكثر مرونة وأكثر قابلية للتكيف والإبداع، شبكات تلهم الأطراف المشاركة بأن يكون التواصل مباشرا وأساسيا مع إنسانية الفرد، شبكات من البشر والآلات الذكية لبناء مجتمعات محلية مترابطة في حالة مستمرة من التنمية المستدامة، مجتمعات مبدعة ومرنة تتقدم ولا تُهمش من خلال التكنولوجيا، تسير بقيادة جامعات متميزة ذات رؤى مستقبلية وفاعلة، لأننا ببساطة يجب ألا ننظر إلى عصرنا على أنه عصر الروبوتات، بل عصر الإنسانية المتمكنة والمتحكمة في الآلة.