كانت ليلة شتائية باردة جدا، عندما تشرفت فيها بزيارة منزل أحد رموز الوعي والشعر في مدينة عرعر بمنطقة الحدود الشمالية، الشاعر والناقد الجميل عمري الرحيّل، وهي ذات الليلة التي عرّفني فيها بأخيه من ذوي الاحتياجات الخاصة في مجلسه الكريم.
قلّة قليلة من الناس الذين يبتهجون ويفتخرون بأقاربهم الذين شاءت أقدار الله أن يكونوا من ذوي الاحتياجات، بل ويقدمونهم في المجالس لضيوفهم، وهذا ملمح إنساني رفيع لا يكون إلا في النفوس الرفيعة من أمثال الشاعر الإنسان عمري الرحيّل.
أتذكر أنها كانت ليلة حافلة بالشعر والذكريات وتقليب أوراق مجلات الشعر العامي وصحفه في أرشيف عمري الرحيّل الورقي، وهو شاهد مهم لمرحلة مهمة من شعرنا العامي.
الذي يجعلني أتذكر تلك الليلة، هو أنني وبعد هذه السنوات الطويلة التي كسرت ذراع التواصل مع الصديق الشاعر عمر الرحيّل، تفاجأت بإطلالته في قصيدة جديدة لم أقرأ قصيدة تباريها في كمية الشعور الإنساني فيها، وإذا بها تتمحور حول أخيه.
بطل النص الذي كتبه عمري ليس امرأة جميلة ساحرة كما عند أغلب شعراء الساحة، ولا امرأة ذات رموش تقتل وترمي الرماح، وليس أميرا أو صاحب جاه ترمى تحت قدميه كلمات أغلب شعراء عصرنا الحالي.
بطل النص هنا ليس قبيلة دكت الأرض دكّاً، وهزمت نظيراتها من القبائل الأخرى، فامتاح لها التاريخ مدائح كاذبة في أغلبها، ولكن بطل النص إنسان من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأحد نزلاء مركز التأهيل بعرعر، هكذا وبكل بساطة.
موجع أنت يا عمري الرحيّل وأنت تكتب هذه الجميلة الخالدة، هذه التي كسرت نمط الشعر العامي المليء بالفتيات والتواريخ والقبائل.
لن أكمل، ولكني سأترككم مع مطلع النص وبطله ونجمه الأول، مع هذه الفاتنة الحزينة، بكل تفاصيلها، من أُمٍّ مكلومة تتذكر تاريخ مرض ابنها بالعام الذي جاء فيه السيل، إلى مريض يرفض تناول الوجبات حتى قدوم أخيه، بل إن هذه التفاصيل أعادت إلى ذاكرتي مشاهد من فيلم (جبر الخواطر) لمخرجه العبقري عاطف الطيب، وكثير من تفاصيل المرضى الصغيرة والمؤلمة، حيث كانت كل تفاصيل الفيلم تدور في ممرات المستشفى وأجواء المرضى المرهقة والحزينة والغرائبية:
واعزي لخوي اللي ورى السور بالتأهيل
 يوم إنه طفل صكّات بقعاء عليه طوال
يا صبره على شكواه صبرن يهد الحيل
مريض المرض ما هو مريض بجمع المال
أجي له وأنا في ويل وارجع وانا بالويل
بعيونه شقى أمّي شايفه راحل.. ونزّال
ولا ياكل إلا لين أجي له بصبح.. وليل
وأقول أنت شيخي جبت لك مسبحه عقال
ثلاثين عام.. من سنة ما يجينا السيل
ومن بعدها تسعه.. معاناته ولا زال
فلا هو مع الحيين وأرجيه وسط الجيل
ولا هو مع الموتى.. كذا راح لي رجّال