الخطوة المقبلة التي ينبغي أن يتم بحثها والتفكير فيها هي رفع دعوى مقابلة ضد رافعي تلك الدعوات الكيدية، للمطالبة بتعويضات تتناسب مع الاتهامات التي تم توجيهها للمملكة
قطعت محكمة مانهاتن الأميركية بعدم مسؤولية المملكة العربية السعودية عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011، ورفضت الدعوى التي تقدم بها مدعون يمثلون بعض شركات التأمين التي تحولت إلى ما يمكن أن يصطلح على تسميته بمافيا التعويضات، وأشار قاضي المحكمة إلى أن المملكة ليست مسؤولة بأي شكل عن تلك الأحداث، وأنه لا يمكن تحميلها وزر الاعتداءات التي نفذها تنظيم القاعدة، مشددا على ضرورة تقديم أدلة حقيقية، بدلاً عن القصص والشائعات والروايات المختلقة التي قدمها رافعو الدعوى، والتي لا يمكن أن تعد دليلا مقنعا تستند إليه أي هيئة قضائية، كما دعا شركات التأمين وأسر الضحايا إلى التوقف الفوري عن توزيع الاتهامات دون وجود أي دليل حقيقي.
ويشكل الحكم صفعة قوية لجماعات الضغط المشبوهة وشركات التأمين التي حاولت ابتزاز المملكة باسم عائلات ضحايا الأحداث، كما يؤكد في الوقت ذاته أن المملكة أدارت معركتها القانونية بحرفية متناهية، وعرفت كيف تسقط تلك الحجج الواهية التي ساقها المدعون، وفنَّد فريق الدفاع صحيفة الاتهامات التي تكونت من أربعة آلاف صفحة، كما تمسك فريق الدفاع عن المملكة بمطلب قانوني في غاية الأهمية، يتمثل في إسقاط هذه الدعاوى بشكل نهائي يضمن عدم رفعها مرة أخرى.
وكانت حيثيات الحكم في غاية الوضوح، وذلك بتأكيد القاضي جورج دانيلز أنه فحص جيدا كافة الأدلة التي ساقها مقدمو الدعوى، ووجد أنها كلها لا تعدو أن تكون مجرد قصص وشائعات يتناقلها البعض، وحاولت مافيا التعويضات الترويج لها وإكسابها صفة قانونية، وقطع دانيلز بأنها محاولات ملفقة ومفبركة، ولا يمكن اعتبارها أدلة قانونية، متسائلا في شفافية «هل يتعين تحميل السعودية مسؤولية كل عمل إرهابي يرتكبه تنظيم «القاعدة»؟
الحكم الأخير ينبغي أن يضع نهاية لهذه المحاولات الفاشلة، لاسيما أنه ليس الأول من نوعه، فقد سبقه تقرير لجنة التحقيق في الهجمات، التابع للكونجرس، والذي أكد بصورة لا تقبل التشكيك عدم وجود أي رابط أو علاقة للحكومة السعودية بالهجمات، كما أقر الكونجرس نفسه بخطأ قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب»، المعروف اختصارا باسم «جاستا»، الذي حاولت من خلاله بعض جماعات الضغط استغلال تلك الأحداث لابتزاز المملكة، وسعت جاهدة إلى الحصول على تعويضات بدون وجه حق لعائلات الضحايا، فإذا كانت السلطتان التشريعية والقضائية في الولايات المتحدة قد اتفقتا على أن الرياض غير معنية بما حدث وليست مسؤولة عنه، فإن ذلك ينبغي أن يكون دافعا لعدم تقديم دعاوى مماثلة، تستهلك الوقت وتستنفذ الجهد في ما لا طائل من ورائه.
الخطوة المقبلة التي ينبغي أن يتم بحثها والتفكير فيها هي رفع دعوى مقابلة ضد رافعي تلك الدعوات الكيدية، للمطالبة بتعويضات تتناسب مع الاتهامات التي تم توجيهها للمملكة، وفي القانون الأميركي وسائر القوانين الدولية مواد واضحة تضمن عدم تشويه السمعة أو تقديم الدعوات الكيدية، وتحفظ في ذات الوقت الحق للجهات التي تتعرض لذلك للمطالبة بتعويضات تتناسب مع الضرر الذي يلحق بها. وهي خطوة تحمل أبعادا كثيرة، في مقدمتها وقف محاولات الابتزاز التي تقوم بها مافيا التعويضات وشركات التأمين، لأن كل من يفكر في القيام بنفس الخطوة سوف يفكر ألف مرة قبل أن يقدم عليها، وبذلك نضمن توقف تلك المحاولات اليائسة.
المملكة أثبتت في مرات كثيرة أنها أولى الدول التي اكتوت بنار الإرهاب، وخاضت حربا عنيفة ضد منابته ومواقعه واستطاعت اجتثاثه من أراضيها، ولم تتهم دولا أخرى برعايته، رغم امتلاكها كثيرا من الأدلة على تورط جهات محددة ومعروفة بالوقوف وراء الأحداث التي شهدتها منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، لكنها ركزت جهودها على ضرورة القضاء على تلك الآفة، ونجحت في مساعيها بفضل الله. ليس ذلك فحسب بل إن المعلومات الموثوقة التي قدمتها لدول كبرى ولعدد من دول المنطقة أسهمت في تجنيبها أعمالا في غاية الوحشية، وهو ما اعترفت به الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، التي قدمت شكرها رسميا للجهات الأمنية السعودية على تلك المعلومات. كما أسهمت في ترقية الأجهزة الأمنية في عدد من الدول العربية والإسلامية، وكان لها الدور الرئيس في إنشاء التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب. كذلك أنشأت الرياض وتولت تمويل عدد من المراكز المتخصصة في دراسات الإرهاب والحركات المتطرفة، مثل مركز «اعتدال» الذي يعد خطوة نوعية في هذا الصدد، وهذه كلها جهود تؤكد بوضوح أن المحاولات المحمومة التي تقوم بها بعض الجهود لاتهام المملكة بدعم الإرهاب هي محاولات محكوم عليها بالفشل المسبق.
بقي القول أخيرا إن عدداً من وسائل الإعلام ومراكز الدراسات في الولايات المتحدة سبق أن أكدت في مرات عدة أن الحكومة الأميركية تملك كثيراً من الأدلة والبراهين على الجهات والدول التي وقفت وراء تلك الأحداث، وقدمت الدعم لمرتكبيها، وآوتهم، وتغاضت عن مؤامراتهم، لكنها تمتنع عن تحديدها في الوقت الحالي، لحسابات سياسية معقدة ومتشابكة، وتحاول استغلال الوضع كورقة ضغط لتحقيق مكاسب متعددة، وهذا الأمر يرجع لها ويخصها دون سواها، ما دام لم يتأثر به الآخرون، لكن إذا كانت جادة في تعويض الضحايا فإن عليها تحديد تلك الجهات بصورة علنية، ومطالبتها بالتعويضات، بدلاً عن محاولات ابتزاز الآخرين، فالعالم لم يعد فيه ضعيف يمكن أن يخضع لتلك المحاولات، طالما كان قادرا على تأكيد حسن موقفه وإثبات براءته.