تعاني المجتمعات وفي كل مكان حول العالم من عملية أدلجة منظمة، تقف وراءها جيوش إلكترونية تعوم في فضاء افتراضي غير مرئي وغير محدود، تعتمد على التزييف

نتساءل أحيانا هل لحرية الفكر والرأي والتعبير حدود أو محددات قيمية؟ أم أنها يجب أن تسبح في فضاء مفتوح ومتاح؟ هل هناك مؤشر ما أو مقياس أو حدود لها ترسم ملامحها؟ وكيف يمكن قياس ذلك وبأي محددات قيمية وسلوكية وأخلاقية تتمتع باعتبارية مقبولة لدى المجتمع، بالرغم من التباين في الطبيعة الظرفية للمجتمعات على أرض الواقع.
اليوم تعاني المجتمعات وفي كل مكان حول العالم من عملية أدلجة منظمة، تقف وراءها جيوش إلكترونية تعوم في فضاء افتراضي غير مرئي وغير محدود، تعتمد على التزييف والتزويق والتجمُّل والاختصار والاختزال، موادها الفكرة والرأي والكلمة والصورة والمشهد، أهدافها تأخذ شكلا وطابعا متغيرا ومتجددا، ويتم ترسيخها لتكون أكثر تأثيرا على متعاطيها وبمختلف شرائحهم الاجتماعية، وسيلتها وسائل التواصل الحديثة، والتي هي «ملاعيب هذا العصر».
يعود ظهور المفهوم الحديث لحرية الرأي والتعبير إلى أواخر القرن السابع عشر في المملكة المتحدة، وحين أصدر البرلمان البريطاني قانون «حرية الكلام في البرلمان»، وفي فرنسا وبعد عقود من الصراع تم إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789 عقب الثورة الفرنسية، الذي نص على أن حرية الرأي والتعبير جزء أساسي من حقوق المواطن، وكانت هناك محاولات في الولايات المتحدة في نفس الفترة لجعل حرية الرأي والتعبير حقا أساسيا، لكنها لم تفلح في تطبيق ما جاء في دستورها، حيث حذف هذا البند في عام 1798 بسبب عدم وجود مساواة في حقوق حرية التعبير بين السود والبيض آنذاك.
ذهب معظم الكتاب والباحثين إلى آراء شتى في تحليلاتهم حول حرية الرأي والتفكير والتعبير، وتباينت بين التقييد والتخفيف، نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 18 «لكل شخص الحق في حرية التفكير والعقيدة، ويشمل هذا الحق حرية تغيير معتقداته، وحرية الإعراب عنهما وإقامة شعائرها»، بالإضافة إلى أن دساتير معظم ديمقراطيات العالم الغربي تحترم هذا الحق لمواطنيها، وأكدت المادة 19 منه «أن الحرية الفكرية تشمل العديد من المجالات، بما في ذلك مسائل الحرية الأكاديمية، وحرية استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة دون رقابة». وهذه في حد ذاتها سلاح ذو حدين حين يُساء استخدامها وبفوضوية كما هو حاصل اليوم..
بعد أحداث 11 سبتمبر تم تصديق «قانون باتريوت»، والذي منح الأجهزة الأمنية صلاحيات واسعة تمكنها من القيام بأعمال تنصت ومراقبة وتفتيش دون اللجوء إلى التسلسل القضائي الذي كان متبعا من قبل.
ترتبط حرية التفكير بحرية الرأي والتعبير، وتعتبر رديفا ملازما لها، ويمكن تعريفها بالحرية في التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام أو الكتابة أو عمل فني بدون رقابة أو قيود حكومية، بشرط ألا تمثل طريقة ومضمون الأفكار أو الآراء ما يمكن اعتباره خرقا لقوانين وأعراف الدولة أو المجموعة التي سمحت بحرية التعبير، ويصاحب حرية الرأي والتعبير على الأغلب بعض أنواع الحقوق والحدود، مثل حق حرية العبادة، وحرية الصحافة والقائمة تطول.
بالنسبة لحدود حرية الرأي والتعبير فإنه يعتبر من القضايا المتشابكة والشائكة والحساسة، إذ إن الحدود التي ترسمها الدول أو المنظمات المانـحة لهذه الحرية قد تتغير وفقا للظروف الأمنية، والنسبة السكانية للأعراق والطوائف والديانات المختلفة التي تعيش ضمن الدولة أو المجموعة، «والتي هي من العوامل المؤثرة فيها بشكل مباشر».
أحيانا قد تلعب ظروف خارج نطاق الدولة أو المجموعة دورا في تغيير حدود الحريات، والذي هو نتيجة حتمية لانتشار وتوسع ظاهرة ومفهوم الإرهاب، مما يترتب عليه عمل مراجعات لها ورقابتها وتقييدها، لدواعي الأمن والحفاظ على أرواح الأبرياء وأمنهم وسلامتهم.
تمنع القوانين في كثير من الدول في أوروبا وكندا، أي كتابة أو حديث علني يؤدي إلى حقد أو كراهية لأسباب عرقية أو دينية، وفي أميركا وضعت المحكمة العليا مقياسا لما يمكن اعتباره إساءة أو خرقا لحدود الحرية سمي «باختبار ميلر» 1973، ويعتمد المقياس على 3 مبادئ رئيسية..
الأول يعتمد على قبول غالبية المجتمع لذلك الرأي كأساس.
والثاني ألا يتعارض الرأي مع القوانين الجنائية.
والثالث أن يكون الرأي والتعبير بأسلوب أدبي وفني جاد وهادف.
إن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناقها دون مضايقة، وفى تلقي ونقل المعلومات والأفكار من خلال أي وسيلة ودونما اعتبار للحدود، وهو ما سبب هذا الخلط وهذه الفوضى التي أصبحت تسم العصر بوسم غير حضاري، بسبب عدم وجود محددات قيمية مجتمعية، وبسبب تنامي تأثير الأفكار والعادات الغربية والغريبة على عقول الكثيرين، لتصبح ثقافة موازية وهجينة يغلب عليها الوهم والخيال الافتراضي، ولا تنتمي لواقع معاش، وتطير فوق سحبها الإشاعة لتصير حقيقة تزيف وعي الملايين..
مفاتيح العصر الجديد التي تمثل ثورة في المعلومات والوصول إليها بيسر هي في حقيقتها ثروة كانت تفتقدها أجيال سبقت، ووسائل التواصل اليوم ربما تشكل جزءا نمطيا من الذوق والمزاج العام، وهي تؤثر فيه وتتأثر به..
إن المحددات القيمية لحرية الرأي والتعبير باتت مرنة ومطاطة في كثير من بلداننا العربية، وأصبحت بلا سقف لتسبح في فضاء ملوث مليء بالدخان، وصارت إلى فوضى أضرت بالمجتمع لتفرض عليه رؤية وثقافة وفكرا مضطربا وموزعا، مما خلق حالة من تردي الوعي، أدت وبالضرورة إلى تغلغل أفكار هدّامة لتفرض واقعا جديدا، وهذا واحد من الأسباب التي ساعدت في انتشار التطرف والإرهاب، مما أدى إلى ظهور الفتن التي تقوم على تفتيت وتقسيم المجتمع، شبيهة بقوانين «الأبارتاد» والتي ظهرت في بداية النصف الثاني من القرن الماضي، والتي قسمت أفراد المجتمع إلى مجموعات عرقية على أساس القبيلة والطائفة واللون، لتسود عليهم.
إن مفاتيح العصر الجديدة هي أشبه ما تكون بملاعيب العيد، فقد تبدو براقة وزاهية بألوانها وما تجلبه من سعادة في التواصل واختزال المسافات والزمن، ولكنها قد تكون سببا في تراجع العلاقات الطبيعية المباشرة نـحو عالم يسبح فيه الخيال، حينما دخل التلفزيون بيوتنا هجرنا وبالتدريج القراءة، وعندما جاءت السيارة أصبحنا نتقاعس عن المشي، وحينما صار لدينا موبايل وكمبيوتر نسينا كيف نكتب الرسائل وكيف نتهجأ الحروف والحركات، وحين دخل الواتساب نسينا كيف نتزاور واكتفينا بالنقر والنظر في صندوق العجائب.
الثروة الحقيقية والمتجددة دوما هي الإنسان، من خلال الاستثمار فيه وبه وعليه، والعمل الواعي والدؤوب على الارتقاء بمداركه، ليكون قادرا على التمييز والفهم، بأن حرية الرأي والفكر والتعبير حدودها وسقفها، هو كل قول أو فعل يؤدي إلى الإساءة إلى الآخر، وإيذاء المجتمع.. وهي حرب طويلة بأدوات وأسلحة غير متكافئة، وهو تحد كبير في محاولة لإرجاعنا إلى القراءة ومن جديد، إنه محو للأمية بمفهومها الجديد الذي لا يقوم على تعلم الأبجدية والحروف، ولكنه أخطر وأصعب منها بكثير.