مخرجات التعليم مُدخلات لكل مؤسسات الدولة، مما يعني أن صلاحها صلاح للدولة وفسادها كذلك، هي ببساطة كالقلب من الجسد، وليس من الأمانة ولا الإنسانية أن يتم التوظيف فيها بمثل هذه الطريقة غير المسؤولة
كل طالب يستحق أن يُدرّس من قبل معلم بارع، لأنه من بين أيدي كل معلم مبدع يخرج إلينا متعلم متمكن، وهنا تبرز المعضلة؛ كيف نختار المعلم الكفء، بل قبل ذلك كيف نعدّ هذا المعلم؟ تطرّقت في مقالات سابقة إلى إعداد المعلم واحتياجاته، كما تطرقت إلى متطلبات القبول لكليات التربية ومتطلبات التخرج، واليوم سوف يكون التركيز على أدوات أو آليات اختيار المعلم للتوظيف في القطاع العام.
بدأت منذ فترة ليست ببعيدة أصوات التذمر تعلو من اختبار الكفايات الذي أصبح متطلبا يجب اجتيازه من وزارة التعليم حتى يتم اختيار المعلم للتوظيف في القطاع العام، ونحن نعلم أن وظيفة التعليم في هذا القطاع هي حلم كل معلم ومعلمة، نظرا لما تقدمه من أمان وظيفي، إضافة إلى مستوى الراتب والحوافز التي تقدم، حيث إنها شبه معدومة في القطاع الخاص، منها مثلا الإجازات والعلاوات السنوية وما شابه ذلك، السؤال الآن لماذا كل هذا التذمر بما أنه من المفترض أن يكون المعلم قد درس المعلومات خلال تأهيله في كليات التربية؟ لنتابع بعض آراء طالبات الدبلوم العام في التربية، حيث ترى إحداهن أن «اختبار الكفايات هدر للوقت والمال بغير فائدة، فالمعلمة درست تخصصها في الجامعة، وهي بالتالي مؤهلة، وتم تقييمها على مدار أعوام، بالإضافة إلى أنها حصلت على دبلوم تربوي، وتم تقييمها خلاله أيضا، وعليه ما تحتاجه هو الخبرة التي تأتي عن طريق الممارسة من خلال التعامل مع الطالبات، وليس من خلال قياس المعلومات المعرفية التي ليست الهدف، بل هي وسيلة للتطور والنمو على جميع الأصعدة، لقد أصبح الاختبار هاجسا للمعلمات وعائقا بدون أي فائدة! وعليه أتمنى أن يتم إلغاؤه، فالكل مستاء منه»، وتضيف أخرى «إن اختبار الكفايات كان من المفترض فيه قياس مستوى الاستعداد الفكري واللغوي والتربوي للمتقدمين، لكنه ركز وبشكل واضح على معلومات من الممكن تحصيلها عن طريق القراءة والحفظ، وهذا بطبيعة الحال مقياس غير صالح لقياس استعداد المتقدم إلى الوظيفة! فما الفرق بينه وبين اختبارات التحصيل العلمي؟! لو أن الأمر كان قياسا للتحصيل العلمي لكانت دراسة أكثر من ستة عشر عاما كافية وزيادة! ثم إضافة إلى عدد الأسئلة والوقت وطريقة احتساب الدرجات، كلها نقاط من المفترض أن تكون واضحة للمتقدم إلى الاختبار، ومع ذلك يجد نفسه في معمعة لها أول وليس لها آخر! وعلى كل حال فإن الفائدة الوحيدة التي رأيناها هي العوائد المالية التي تحصلت عليها الوزارة! أما كتفنيذ للأصلح لمهمة التعليم فلا والله لم يحدث هذا مطلقا! فلو كان لي من الأمر شيء، لجعلت الوظيفة التعليمية مقتصرة على برنامج تأهيلي، من يجتازه يُعلّم، ومن لا يجتازه يُقصى مباشرة دون أي محسوبيات، ولا أقصد هنا برنامجا كالدبلوم التربوي، بل دورة تأهيلية أرفع مستوى؛ تكون نسبة 80 % منه عملية، تتضمن إضافة إلى العلوم الشرعية والتربوية، العلوم الفكرية التي تصوّب منهجه، والعلوم اللغوية التي تقوّم لديه مهارات التحدث والكتابة، المشكلة ليست في الاختيار، بل في المنهجية التي بناءً عليها يتم التأهيل، وفي كون الوظيفة التعليمية أصبحت مجرد وظيفية! التعليم شرف لا يمكن أن يكون لأي أحد، وزارة التّعليم أمّ المؤسسات الباقية، فمخرجاتها مُدخلات لكل مؤسسات الدولة، مما يعني أن صلاحها صلاح للدولة، وفسادها كذلك، هي ببساطة كالقلب من الجسد، وليس من الأمانة ولا الإنسانية أو حتى حضاريا أن يتم التوظيف فيها بمثل هذه الطريقة غير المسؤولة».
عندما عدت إلى طرق اختيار المعلمين والمعلمات في عدة دول غربية وجدت أن المتبع لديهم قد يختلف بعض الشيء، لكن الغالبية تستخدم اختبارا أو سلسلة اختبارات لتقدير المستوى المعرفي والتربوي والفكري لدى المتقدمين، اختبار لمادة التخصص، واختبار للمرحلة الدراسية التي يتقدم إليها المعلم، واختبار في مواد التربية من طرق تدريس ومناهج وتقويم وغيرها من المواد، ولكنها ليست المقياس الوحيد الذي يؤخذ به، فبالإضافة إلى ذلك يرفع المتقدم ملف إنجاز «Portfolio»، يحتوي على نموذج من أعماله، وتقارير المعلم الأول الذي تابعه خلال فترة التدريب كمعلم مساعد، وتقرير المشرف المتخصص من إدارة التعليم، ويتضمن أيضا الدورات المهنية التي اجتازها والمؤتمرات وورش العمل التي حضرها، والجمعيات أو المؤسسات المتخصصة التي هو عضو فاعل فيها، ونبذة عن تأملاته لطرق تدريسه وإدارته الصفية، والسبل التي اتخذها لمعالجة أي تحديات واجهته، عندها يمنح المتقدم رخصة مزاولة مهنة التعليم، والتي تفتح أمامه وظيفة بمرتّب أعلى، ويثبّت على مرتبة معلم، بل إن هنالك آليات لرخصة أعلى، وهي التي تضمن له التوظيف في أي مكان براتب أعلى، وهذه عادة ما تحتاج إلى فترة أطول من التحضير والتجهز، لكنها تضع من يتحصل عليها في مرتبة عالية من ضمن الكادر التعليمي «نخبة أولى» في أي مؤسسة تعليمية، وعادة ما يكون أصحابها من أصحاب الرواتب العالية.
مما سبق نستنتج أن التركيز ليس على اختبار واحد، بل على فترة التدريب التي تتم بعد إتمام الشهادة التربوية، والتي قد تمتد من سنة إلى ثلاث سنوات، بمعنى أن المعلم يمر بمستويات حتى يصبح معلم مادة أو فصل، يخضع خلالها لبرامج تدريبية وملاحظة ومتابعة، ثم بعدها يتم اتخاذ القرار بالتعيين الرسمي أو عدمه، ولذلك تجد أن بعض المدارس تبحث عن الممتازين في مادتهم، ومن ثم تعمل على تأهيلهم خلال العمل، بل تساعدهم على إتمام متطلبات رخصة التعليم.
الذي يحصل عندنا أن المدارس الأهلية بسبب متطلب السعودة توظّف الخريج، طبعا براتب متدنٍّ بالنسبة لراتب الوزارة، لكن تعمل على تدريبه وتأهيله وبناء قدراته، لأنها تحاسب على مستوى المعلمين لديها، ويخصم من الدعم المقدم إليها في حالة تدني المستوى، وخلال ذلك يتقدم المعلم لاختبار الكفايات ولديه ثلاث فرص؛ أي ثلاث سنوات متتابعة لأن الاختبار سنوي، ومن خلال الزيارات الميدانية للمشرفين يتم اختيار الأفضل منهم وينقل إلى كادر الوزارة، إذًا بالنسبة للبعض فهنالك فرص التدريب خلال العمل، ولكن ماذا بالنسبة لمن لم يجد وظيفة في مؤسسة تعليم أهلية، من أين يتحصل على الخبرة؟ ولماذا يجب أن ينتظر سنة كاملة قبل التقدم إلى الاختبار الثاني؟ وكيف يتم تقدير مستواه من خلال نتائج اختبار يعتبر بمثابة اختبار تحصيلي؟
الحل يكمن في توظيف المتقدمين على مرتبة مساعد معلم، وقد يتم استخدام راتب رمزي يصرف عليه من موارد اختبارات القياس والكفايات، إضافة إلى دعم من الدولة، وهنا كما اقترحت الطالبة من يجتاز هذه الفترة يثبّت، ومن لا يجتاز يُصرف من الوظيفة، ولا أظن حينها سوف يكون لأي متقدم أي اعتراض، وإن كان الدعم المادي لا يكفي فيستطيع القطاع الخاص من المؤسسات التجارية الكبرى المساهمة، وتخصم له من الضرائب، طرق الدعم المالي كثيرة والأفكار أكثر، المهم أن نعطي شبابنا الفرص التي يستحقونها، والناتج ليس الارتقاء بهم، بل بالعملية التربوية ومخرجاتها، لأنهم أولا وأخيرا قلب العملية التعلمية مهما ظهرت لنا نظريات ودارسات لتحويل المركز إلى أمر آخر، لأنهم دائما يعودون للمعلم.