بعض الناس، إذا منَّ الله عليه بترك ما وقع فيه من المعاصي، فإنّه يظن أن من تمام توبته سلوك الطريق الأشق، بحجّة أن الثواب على قدر المشقة، فيضيّق على نفسه، وعلى غيره
الثواب يكون على قدر الالتزام بما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وقد تكون الطاعة لا مشقة فيها -كالصلاة على وقتها - وتكون أفضل الأعمال، وأكثرها ثوابا، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، فهما خفيفتان على اللسان، لكنهما ثقيلتان في الميزان، فتقصُّد المشقة في العبادات، طلبا للثواب، ليس صوابا، ولم يأمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام بالمشقة، وإنما أمر باليسر، كما في قوله (يسروا ولا تعسروا)، وما خُيِّر عليه الصلاة والسلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
وإذا كان أداء العبادة الشرعية لا يتأتى إلا مع نوع مشقة، فإن الصبر على أدائها مع المشقة يزيد الأجر والثواب، لا لأن المشقة مقصودة، وإنما لكون المشقة لم تمنعه من أداء العبادة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها (إن أجرك على قدر نصبك)، وأخبر أن مما يرفع الله به الدرجات (إسباغ الوضوء على المكاره)، لكن إن استطاع إسباغ الوضوء بدون مكاره، فهو المطلوب، لأن تقصد المكلف إيقاع المشقة، يُعد مُخالفةً لقصد الشارع، فديننا دين السماحة واليسر، قال تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
وبعض الناس، إذا منَّ الله عليه بترك ما وقع فيه من الشهوات والمعاصي، فإنّه يظن أن من تمام توبته سلوك الطريق الأشق، بحجة أن الثواب على قدر المشقة، فيضيّق على نفسه، وعلى غيره، وما كان ينبغي له ذلك، فالدين مبني على السماحة واليسر، وإذا تاب الإنسان من ذنوبه، فإن الله يتوب عليه، ويُبدل سيئاته حسنات، ولو بلغت ذنوبه مثل زبد البحر، قال تعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم)، وقال الله في حق من تاب من الشرك والقتل والزنى (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما)، وقال في حق الكفار (قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف)، فما أعظم سماحة ديننا (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)، هذا في حق الكفار، فكيف بعصاة المسلمين؟
فدين الإسلام يسر، وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، ولهذا لمّا رأى النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلم شيخا يُهَادَى بين ابنيه قال ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، فقال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب. رواه مسلم، وكم تمنيتُ أن يُقال لهؤلاء الذين يمشون على أقدامهم من بلد إلى بلد، ويُتعبون أنفسهم، ويعرضونها للخطر، وربما يشغلون غيرهم بمتابعتهم والمشي خلفهم، وإسعافهم، كم تمنيت أن يُقال: مروهم فليركبوا سياراتهم، فإن الناس أغنياء عن تعذيبهم لأنفسهم، وإذا كان الحامل لهم على سلوك المشقة هو الإحسان والإكرام لمن مشوا إليه، فإن هناك ما هو أيسر على الماشي، وأنفع لمن مشوا إليه، وهو الدعاء لهم بالتوفيق، والصدقة عنهم إن استطاعوا، والتقدير والإكرام للغير يحصل بدون تقصد المشقة، مادام يوجد البديل الأيسر، وإن أراد الماشون المكافأة لأنفسهم بهذا المشي، فرزق الله واسع بدون ذلك، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولا حاجة حينئذ إلى تقصد المشقة، لا في العبادات التي يُراد بها وجه الله والدار الآخرة، ولا في العادات التي يُراد بها الدنيا، قال تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، فمادام الله يريد بنا اليسر، فلنقبل ذلك، ونتجنب العسر لكونه لا يريده لنا، ولنسأل الله العافية، ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حُلُّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد.