تنامي الوعي الشعبي في السعودية وتلاحم القيادة بالشعب والعكس، بات يقفز قفزات سريعة واسعة بسبب تطور المجتمع، وارتفاع منسوب المثقفين والأدباء والفنانين والمتعلمين والانفتاح الإعلامي

التطرف ظاهرة إنسانية عالمية تمثل غالبا نوعا من الوعي المزيف، وحالة هروب من تناقضات الواقع في ذهن المتطرف، وتكون رد فعل على تطرف آخر أو احتجاج على الاعتدال، ولذلك يمثل التطرف موقفا خصما على طول الخط، وهذا ما يبقي التطرف مهما تفاقم وعظم حالة هامشية لا تدوم ولا تصنع تاريخا.
ومسألة التفريق بين التطرف والإرهاب واعتبار التطرف هو النظرية والإرهاب أحد أهم تطبيقاتها، بغض النظر عن جودة هذا التفريق علميا، إلا أنه صالح إجرائيا.
ولو حاولنا مقاربة الإجابة لسؤال ملح حول المسؤول عن وجود خطاب الكراهية والتطرف لعزونا السبب الأكبر والأهم إلى محاولة خلق أرض وبيئة مناسبة لترسية أساسات الإسلام السياسي، الذي أعلن عن وجوده من عشرات السنين، لكن المناخ الاجتماعي والسياسي للمملكة لا يمكن لهذه الأفكار والمبادئ من تأسيس قواعد صلبة على أرض الواقع، فصار جهد هذه الجماعات منصبا على خلق جوها ومناخها المناسب المبني على المفاصلة ومعززات نظرية الحاكمية والمهدوية وما إلى ذلك، ويمكن إيجاز أهم الأسباب الصانعة للكراهية والتشدد والتطرف، بالإضافة إلى جناية الإسلام السياسي وزبانيته على المسلمين ومجتمعاتهم، فيما يلي:
1. العامل البشري المسيطر على تحليل وتفسير وشرح النص الديني والذي يقود العربي والمسلم في الغالب، أعني النص الديني.
2. الانسداد المعرفي والتصحر الثقافي الذي جُبل عليه ابن الصحراء، بالإضافة إلى الطبيعة والبنية النفسية له.
3. تخلف الإفادة من المنتجات والأدوات السياسية والقانونية التي أثبتت فائدتها في العبور بالمجتمعات من مآزق كثيرة.
4. عدم تبني خطاب إسلامي معتدل واضح يحمي المجتمع والدولة من فلتات المتعجلين وذوي الأغراض الجماهيرية والسياسية.
والتطرف وأثره الإرهاب في انحسار كبير، لا تكاد تخطئه العين، ويمكن إدراك هذه الحقيقة التي تعتبر أكبر شهادة على نجاح الجهود الأمنية في هذا السبيل من خلال قياس الفارق بين عامي 2003 و2017 مثلا، بمراقبة تحولات خطابات، وليس خطاب التطرف والكراهية، وكذلك اختفاء أصوات كانت ملء السمع والبصر، وظهور أصوات أخرى تملأ المشهد الآن تسامحا وتنويرا وحبا، ويعزز هذا الرأي حركة الإعلام والثقافة والفنون التي يسوقها المجتمع إلى آفاق واسعة، فالسعودية اليوم باتت تصنع وعيا وفكرا، وتقود عملية تحديث ومواكبة حضارية لا تجري في أي بلد مشابه عطفا على التسارع والتقدم المطرد لهذا التنوير المشع، لا أنكر وجود بقايا وآثار للتطرف ولا أنكر أن الإرهاب ما زال خطرا قائما وكامنا قد يثور في أي وقت، لكن ليس من العدل أن نقول إنهما كما كانا سابقا في حالة تنامٍ أو على الأقل في حالة ثبات عطفا على حادثة هنا أو هناك تغوص في بحر من الحراك الثقافي والتلاقي الحضاري المتسامح الحر.
وهذا لا يعني: أن هذه اللغة النكدة السوداء غائبة بشكل تام -حتى وإن اختفت عن المشهد العام ومورست في الأقبية والجيوب المندسة في تفاصيل المجتمع- غير أننا لو نظرنا للأمر بعد عشر سنوات من الآن في ظل الجهود السياسية والثقافية والاجتماعية التي تمارسها الأجهزة الحكومية المختلفة الجديدة أو القديمة، فإن هذه اللغة ستصبح من الماضي وغريبة ويتيمة، ومما لا يلحظه بعض المتكلمين في الشأن السعودي وعلى الأخص الكارهون، أن تنامي الوعي الشعبي في السعودية وتلاحم القيادة بالشعب والعكس، بات يقفز قفزات سريعة واسعة، ويحلق في آفاق بعيدة بسبب تطور المجتمع، وارتفاع منسوب المثقفين والأدباء والفنانين والمتعلمين والانفتاح الإعلامي، وتيسير الفتوى، ونزول السياسي عدة درجات لمجتمعه وقفزه على نظريات وأقانيم السياسة العربية المعروفة.
أشير إلى أن الأجهزة الأمنية استطاعت إحراز نجاح متقدم وكبير في الحد من الإرهاب، لأن هذا هو عملها الحقيقي -الميدان والمراقبة والعمليات الاستباقية والمكافحة- ومن هذا النجاح أفرز أثر بالغ الأهمية على مكافحة التطرف (النظرية) بطريقة غير مباشرة، واستطاعت تلك الجهود الأمنية تحجيم الفعل بمكافحة الأثر.
ولا شك أيضا أن هناك جهودا جيدة ومقدرة تتماهى مع التوجه العالمي لمواجهة الكراهية والتطرف والحد منهما، غير أنها من وجهة نظري غير كافية ولا توازي الجهد العظيم في مكافحة الإرهاب ومواجهته، بل ومسابقته أيضا من قبل الأجهزة الأمنية، بل يتطلب الأمر تكاتف جميع المؤسسات الحكومية والأهلية للمساهمة في هذا المطلب الوطني الكبير، فلا بد من وجود عمل علمي وعملي مؤسسي خاص بمواجهة التطرف والتشدد ومكافحة الكراهية، عميق الأثر يسمي الأشياء بأسمائها، ويطرح الطرح الشفاف الواضح البين، فما يوجد الآن محاولات تشبه ما ذكرت.
أخيرا، الاقتصاد حياة المجتمع، يحتاج ساحة آمنة مزدهرة بالفنون والحضارة، وهذا لا يتم قبل القضاء المبرم على الكراهية والتطرف والطائفية وأثرها الإرهاب.