«عبير العنزي»، تبرعت بجزء من كبدها، لطفلة لا تعرفها، مطبقة قوله تعالى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، فأي إنسانية تلك، التي حبا بها الله ممرضاتنا السعوديات

في ثقافة المجتمعات العربية بصفة عامة، ما إن يحدث خطأ فردي، من شخص أو اثنين، حتى يقع العقاب على الجميع، إما بإصدار قرار يجرف معه الجيد والرديء كردة فعل، أو بتعميم ذلك الخطأ الذي ارتكبه الفرد، على الجميع من الأبرياء. مثل ما حدث الأسبوع الماضي في الطائف، حين عبثت ممرضات بطريقة لا إنسانية، بطفل رضيع، دون ذرة خوف من الله، أو احترام لأخلاقيات المهنة، بأن الطفل الذي بين أيديهن تركه أهله أمانة، ليتلقى العلاج، بل كان الأهم بالنسبة لهن أن يلهون ويضحكن قليلاً. دون أن يدركن حجم المسؤولية، وحجم الخطأ الذي ارتكبنه، ليفقدن على أثر ذلك وظائفهن، في زمن شحت فيه الوظائف، ناهيك عن حجم الخزي والعار، الذي تسببن فيه لأنفسهن وأسرهن، والذي سيلاحقهن لفترة طويلة قادمة.
والحقيقة، أود أن أوضح، أنه إن أساءت ممرضتان أو ثلاث لمهنة التمريض، متجاوزات بذلك أخلاقيات المهنة، فهذا غير مبرر لأن يجعلنا نظلم البقية، ونعمم هذا الخطأ، لنصم به جميع ممرضاتنا السعوديات، أو يجعلنا ننسى مواقفهن الشهمة والنبيلة، التي لم تتوقف عند حدود وساعات الوظيفة، بل لامست أعلى نقطة في إنسانيتهن، لتحرك شعورهن العميق بالمسؤولية، والذي يدل على سمو تلك الأنفس الشفافة والملائكية.
فمثلاً يجب ألا ننسى، كيف أنقذت الممرضة «سعاد الصاعدي» في منطقة المدينة المنورة، مريضة من الانتحار كانت تعاني، من حالة اكتئاب شديدة، بعد وفاة والدها، حين هربت أثناء مراجعتها لعيادة الطوارئ في أحد الأيام، لتلقي بنفسها من على سطح المبني، لتلحق بها سعاد، وتحتضنها في مشهد إنساني واستثنائي، وتنجح في ثنيها عن الانتحار.
وفي قرية تقع شرق عنيزة، قدمت الممرضة هديل السعيد، صورة أخرى ناصعة البياض، من صور الإنسانية، أثبتت فيها أن مهنة التمريض، لكثير من الممرضات السعوديات، مسؤولية إنسانية، تعدت ساعات العمل، حين سمعت أثناء دخولها إلى مهرجان «ريف العوشزية»، أصوات استغاثة، لعدد من الأشخاص في الطريق المجاور، كانوا يحاولون لفت النظر للمارة على الطريق. وحين استجابت للأصوات، فوجئت بأن هناك طفلا مصريا، متوقفا قلبه، ووالده في حالة يرثى لها، لتقوم على الفور بواجبها في تقديم الإسعافات الأولية وإنعاش القلب، ولم تتركه وتدخل إلى المهرجان، أو تقول إنه لا شأن لها، بل أسعفته، حتى عاد إليه التنفس من جديد.
ومن منا لا يتذكر، بطلة حريق مستشفى جازان العام «أميرة إسماعيل»، التي استطاعت بمنتهى الشجاعة، أن تثبت وسط الحريق، دون أن تفكر كيف تنجو بحياتها، بل في إنقاذ سبعة أطفال.
ولم ننس أيضاً، موقف الممرضة «أريج القحطاني» البطولي، التي صادف وجودها في أحد المجمعات التجارية في الرياض، لتعرض شخص لثلاثة طلقات نارية، فلم تخف من إنقاذه، ولم تولّيه ظهرها، بل تمكنت من السيطرة على إصابته، حتى وصول سيارة الإسعاف.
نفس الموقف، حدث أمام الممرضة أفراح الشمري، في جنوب حائل، بتفاصيل مختلفة، حين أصيب خمسة شبان، في حادث انقلاب على «طريق المختلف»، وصادف وجودها وأسرتها للتنزه أثناءه. فلم تبق مع أسرتها لتكمل نزهتها، بل تركتهم وهرعت لأداء واجبها الإنساني، لإجراء الإسعافات الأولية للمصابين كل حسب خطورة إصابته. حيث احتاج أحدهم إلى عملية إنعاش قلبي رئوي، استمرت لأكثر من 20 دقيقة، ولم تتركه وتكتفِ بأنه توفي حين توقف نبضه، بل كانت تحاول إنقاذ حياته. وحالة أخرى، لمصاب آخر بكسر باليد، وجروح في الرأس، ربطت شماغه على يده، وعلقتها على رقبته، وضمدت جراحه، وطمأنته بأن وضعه جيد. ثم انتقلت إلى المصاب الذي يليه، وكان طفلا يبلغ الـ 9 تقريبا، ويعاني من كسور في اليد والفخذ والساق، ولم تتركهم إلا بعد أن تم نقل جميع المصابين إلى المستشفى.
وربما لا يعرف الكثير، عن قصة الممرضة «عبير العنزي»، التي تبرعت بجزء من كبدها، لطفلة لا تعرفها مطبقة قوله تعالى (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، فلم تكن خائفة على نفسها من عملية التبرع، بقدر خوفها أن تفقد تلك الطفلة حياتها، فأي إنسانية تلك، التي حبا بها الله ممرضاتنا السعوديات.
هؤلاء هن ممرضاتنا اللاتي نعرف، أيها السيدات والسادة، سيبقين ملائكة رحمة.. وفخر للوطن كما عهدنا، وسنظل نتعلم من مواقفهن النبيلة. ومن أساءت التصرف، وعبثت ولم تحترم أخلاقيات المهنة، نعدها دخيلة على مهنة التمريض، ولا تنتمي إلى مجتمع الممرضات السعوديات، التي تعد المسؤولية والشهامة.. جزءا لا يتجزأ من إنسانيتهن.