من أكثر الأمور التي تؤرق الغرب والكيان الصهيوني، هو سعينا لبناء وقيام الدولة الوطنية الحديثة، والتي هي المدخل نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، والتوزيع والاستثمار الوطني والأمثل لثرواتنا

إن من بين أكثر الأمور التي لفتت نظر الكثيرين هو تعبير «التعافي من إدمان النفط»، الذي أطلقه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والذي يمثل أكبر تحد ومواجهة مع النفس لأي دولة تروم وبعزيمة وإخلاص الخروج من أحادية الاقتصاد، في اعتماد ميزانها التجاري وميزان مدفوعاتها على منتج رئيسي كالنفط لتغطية حاجاتها.
وكما ذكرت بمقالي السابق، فأنا من المتابعين لحركة النمو الاقتصادي في بلداننا العربية شمال إفريقيا وآسيا ولعقود مضت، وفي المملكة على وجه الخصوص، والتي هي موضوع هذا البحث البسيط، فالأمر هو وبكل بساطة ووضوح نظرة ورؤية موضوعية لأجل الأجيال القادمة ومستقبلها، وهو نهج يحمل بين طياته شعوراً وطنيا غاية في الأهمية.
نحن نتعايش اليوم مع واقعنا بكل ما فيه بواقعية تفرضها المتغيرات والظروف، ولا سبيل أمامنا سوى السير بخطوات حثيثة نحو بناء الدولة الوطنية الحديثة، وإرساء مقوماتها بالتدريج وحسب الأولوية والأهمية.
التعافي من إدمان النفط، هو دعوة جادة للتغيير والتنويع في نمط حياتنا وعيشنا اقتصاديا واجتماعيا، وفي الكثير من المجالات التي تحد من انطلاق الفكر والإبداع والابتكار، وهو إعادة توزيع للدخل والناتج القومي وعلى أسس ورؤية تواكبان العصر، ليذهب إلى مستحقيه كمنتج نهائي، وهو الهدف، ويحتاج إرادة وطنية خالصة تنبع من شعور وتفاعل حقيقي من جناحي الأمة، وهما الوطن كمسكن كبير يحافظ على أبنائه، بحدوده الجغرافية والسياسية والسيادية، والمواطنة والتي هي «البعد الآخر» وهي الشعور بالانتماء لهذه الأرض ومن دونها لا تستقيم المعادلة.
إن النهج الإصلاحي الذي تؤمن به بعض القيادات العربية وعلى رأسها المملكة ومصر، اللتان تدركان جيدا أهمية هذا الطريق الذي لا بد من المضي فيه رغم كل ما تعترضه من صعاب، فهو بناء وتخطيط يخدم هذه الأجيال والأجيال القادمة والتي بعدها ولعقود قادمة، ربما لن تستطيع الأجيال السابقة إدراك نتائجه، ولكنها ستكون مطمئنة إلى مستقبل أبنائها وأحفادها.
كان ولا يزال «مشروع استقلال الإرادة الوطنية» وعلى مدى عقود مضت هو الهاجس الذي يؤرق قوى إقليمية من حولنا، وحيثما تتوفر الإرادة وتتشكل النواة لتحقيق هذا المشروع، والشواهد كثيرة خلال النصف الأخير من القرن الماضي وليومنا هذا، والباحث عنها لن يجد كبير عناء في الوقوع على مثل تلك التجارب والمحاولات التي نجحوا في وأدها والقضاء عليها، في دول وشعوب مختلفة، سواء في إفريقيا أو آسيا أو أميركا اللاتينية وغيرها من البلاد والشعوب، التي حاولت أن تجعل حلم امتلاك إرادتها الوطنية حقيقة لتحقيق استقلالها الوطني، لقد كانت هذه المحاولات والمشاريع مرتبطة في بداياتها بحركات التحرر الوطني من ربقة الاستعمار بمفهومه التقليدي القديم، وللمطالبة بأسس جديدة للعلاقات الدولية، تضع حداً ونهاية للهيمنة الأجنبية بمختلف أشكالها، وقد جوبهت بشراسة وضراوة ولا تزال، ولكن بأساليب اختلفت وتطورت، ونتج عن ذلك حينها حركات تمرد ومقاومة لتلك الشعوب، تجلت في ظهور كيانات سياسية وتكتلات إقليمية جمعتها لتزيدها قوة أكبر في مواجهة التحديات، منذ خمسينات القرن الماضي في آسيا وإفريقيا.
 ما زالت المحاولات مستمرة للنيل من إرادتنا واستقلالنا الوطني في معظم ربوع عالمنا العربي، نحن نحاول سرد الأحداث للتذكير ليس إلا، وإعادة صور من الماضي لشبابنا المتسلح بالعلم، لزيادة معرفتهم والارتقاء بوعيهم ومداركهم، للربط بين ما حدث بالأمس وما يحدث اليوم في عالمنا العربي، ومحيطنا من حولنا، والتحوط منه ولأجله.
الهجمة علينا قوية وشرسة ومستمرة، وتأخذ أشكالا متعددة ومتغيرة، وتزداد وستزداد ضراوة كلما تقدمنا، وحسب تقاطع وتغير المصالح وتشابكها من حولنا، إن الحصار والطوق اللذين يحاول بعض بلاد الغرب فرضهما من حولنا، من خلال التمدد الإيراني هما ليس وليد هذه الفترة، بل هي كلها مخططات وأساليب لغزونا وضرب وعينا ولحمتنا من خلال تفتيتنا، بدأت منذ عقود.
إن من أكثر الأمور التي تؤرق الغرب والكيان الصهيوني، هو سعينا لبناء وقيام الدولة الوطنية الحديثة، والتي هي المدخل نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، والتوزيع والاستثمار الوطني والأمثل لثرواتنا، وكل الخطوات الجادة التي تتخذها وتسير عليها بعض القيادات العربية وتؤدي إليها. لقد استعمرونا لعقود طويلة لأجل ذلك، ولكن هاجسهم اليوم هو منعنا من امتلاك إرادتنا ومقدراتنا، والشواهد على ذلك ربما جاءت مبكرة ومنذ أكثر من عقد من الزمان، وما تزال، ولن يكفّوا عن مقاومتها بكل السبل، ومن هنا يبدأ دورنا ومسؤوليتنا.