تجاوز قدسية ملالي إيران هو أول ثمار عولمة الحداثة التي قد تقود إلى الفصل بين السياسي والديني على المدى المتوسط وليس البعيد

كيف يتغير العالم من حولنا؟ كيف تسقط الأيديو لوجيات والسرديات الكبري والتابوهات؟ كيف يقود الشباب في إيران -خلافا لمعظم التوقعات- بفكره وأدوات عصره مسيرة التغيير؟
ما نشاهده في شوارع إيران وميادينها، عبر شاشات التلفزيون والكمبيوتر والمحمول، أكبر من مجرد احتجاجات غاضبة على سوء الأوضاع الاقتصادية، وأصغر من الثورة الشاملة على نظام الملالي في إيران، ولكنه يعبر -في النهاية- عن بداية الفصل بين الديني والسياسي، ليس في إيران.
فإذا كان التداخل بين الديني والسياسي صبغ التجربة الإنسانية منذ آلاف السنين، قبل أن تضعه الحداثة موضع التساؤل والمساءلة، حسب «جورج بالانديه» في دراسته علاقة الدين بالسلطة، حيث «المقدس» حاضر دائما في صلب السلطة، فإن شيوع قيم الحداثة في عصر العولمة التي تفصل ما هو ديني عما هو سياسي، فإن «عولمة الحداثة» بفعل ثورة الاتصالات والإعلام، سلّطت الضوء بقوة على الموقف المسكوني للتقليد الديني، الذي جعل المقدس حاضرا في هذه البقعة من العالم -ولم يبارحها أبدا- حضورا يتعالى على العصر واستحقاقاته المتجددة، رافضا أن يلوث نفسه بالواقع وضروراته المتغيرة.
ويمثل عام 1997 -في تصوري- بداية النهاية لهذا الزواج الكاثوليكي بين الديني والسياسي في إيران، بوصول الرئيس السابق محمد خاتمي إلى السلطة للمرة الأولى، بفوز ساحق على مرشح المرشد الأعلى «علي أكبر ناطق نوري»، معبرا عن تيار عريض يدعو إلى الإصلاح و«التغيير».
ويبدو أن فك شفرة ما يحدث الآن، وما سيحدث في المستقبل، يكمن في كلمة «الإصلاح» ذاتها. فطبيعة المعتقدات أو الدُوجمات هي طبيعة إستاتيكية ساكنة، وليست طبيعة ديناميكية ثائرة. وما يظن أنه ديناميكية ثائرة في نطاق المعتقدات إنما هو في الواقع حرب وتطاحن داخل المعتقد الواحد. وحتى إذا انقسم المعتقد الواحد إلى شيع وطوائف، فإن ذلك لا يدخل في نطاق «الإصلاح»، بل يدخل في نطاق الانقسام والفصل والاستقلال.
فقد أدت ثورة رجال الإصلاح الديني في أوروبا «عصر النهضة» أمثال: «مارتن لوثر»
(1483 - 1546) و«كالفن (1509 - 1564) و«زوينجلي» (1484 - 1531)
و«سيرفيتوس» (1511 - 1553) وغيرهم، إلى الانقسام داخل العقيدة المسيحية الواحدة الكاثوليكية - الجامعة«، ولم يعمل ذلك على تقدم المسيحية وإنما عمل على إضعافها، وإلى تطاحن وحروب بين الكاثوليك والبروتوستانت »المحتجون« في أوروبا.
كذلك فعلت الفرق الإسلامية منذ صدر الإسلام، وبدلا من أن تكون العقيدة مصدرا للوحدة والتعاون والتناغم، أصبحت مصدرا للانقسام والتنازع والتناحر:» فقد أدى الاختلاف العقدي، في التاريخ الإسلامي إلى حدوث انقسامات سياسية مزقت وحدة المسلمين وأضعفت شوكتهم«.
فالانقسام الخارجي الشيعي أواخر خلافة علي بن أبي طالب، والانقسام السني الفاطمي في العهد العباسي، وما تبعته من انقسامات سنية شيعية، ثم الانقسام السنّي الشيعي الإثني عشري الذي خط الحدود الفاصلة بين الدولتين العثمانية الصفوية، وغيرها من الانقسامات التي عرفها تاريخ الإسلام السياسي، أدت إلى إضعاف الأمة وتبديد طاقتها.
ما نشاهده اليوم، حسب»بالانديه«، هو «عولمة الحداثة» التي أثرت على ما هو خاص ومحلي لحساب ما هو كوني وعالمي، إذ إن العولمة هي في الأساس عولمة وسائل الإعلام ووسائل الاتصال التي استخدمها الشباب الإيراني بمهارة»في المراوغة والتهديف«في شباك المحافظين، أو قل إن تكنولوجيا الاتصالات تلاعبت بالاستقرار المطمئن بين الديني والسياسي في إيران، مثلما تلاعب الإمام الخميني بها»عبر الكاسيت«منذ وصوله إلى السلطة عام 1979، وهو ما يقلب مفهوم «السلطة» ذاتها رأسا على عقب، لتصبح «خاضعة للتكنولوجيا»، فاللغة الفارسية مصنفة على أنها رابع لغة تدوين على شبكة الإنترنت، ويوجد في إيران أكثر من مئة ألف مدونة تجري دراستها بدقة بالغة في مراكز الأبحاث العالمية، باعتبارها تعكس الوجه غير المعلن للمجتمع الإيراني، خصوصا شريحة الشباب.
وإذا كان هؤلاء «الشباب» هم كلمة السر فيما حدث ويحدث -70% من سكان إيران دون سن الـ30- باعتبارهم الأسبق على التعاطي مع العولمة وأدواتها، فإن تجاوز قدسية ملالي إيران هو أول ثمار عولمة الحداثة التي قد تقود إلى الفصل بين السياسي والديني على المدى المتوسط وليس البعيد!.