علينا أن نؤمن بأن للآخر حقا في التعبير، وبأننا جمعيا متساوون في مفهوم واسع اسمه الإنسانية؛ حق الآخر وإنسانيته من المفاهيم التي يجب ألا نتجاهلها، وأتمنى أيضا على إعلامنا أن يكون صوت المواطن وضميره
أعرف مثلا شعبيا يقول: «شو بدّي أتذكر منك يا سفرجل، كل عضّة بغصّة»! وإن ركزنا على المثل نجد أن القائل لم يفكر أبدا بحلاوة السفرجل، أو تعدد استخداماته، مثل تحضير المربيات والحلويات، أو استخدامه كعلاج لكثير من الحالات المرضية، ولكن ليس هذا حديثنا، وإنما المقارنة وضعت هنا لأتمكّن من إيصال رسالة، هي أننا في كثير من الأحيان نختار ماذا ننسى؟ وماذا نتذكر؟ أما في الحالات الأخرى فنستطيع، إن تدربنا على أساليب معينة، مساعدة الذاكرة على استرجاع الكثير من المعلومات عند الحاجة، وهذا مهم جدا، خاصة بالنسبة للطلبة والطالبات وهم في خضم الاختبارات، لكننا أيضا نستطيع، إن رغبنا في ذلك، أن نعتم على أمور مؤلمة أو حزينة كيلا تشوّش علينا.
الواقع يقول إنه، أحيانا، مهما قام الفرد بأعمال وإنجازات، فقد يأتي يوم يخطئ فيه أو يقصّر أو يفهم خطأ، أو قد يكون الأمر في الأصل غير متعلق به، بل بالمتلقي ومستواه أو استعداده أو حالته في حينها، ماذا يحدث؟ يُمحى كل شيء من الذاكرة بطرفة عين، ومن ثم يبدأ الهجوم! كيف يتصرّف حينها؟ هل يستسلم لليأس؟ هل يغيّر من نمط تفكيره وأسلوبه في التعامل؟ هنا الأمر عائد إلى تركيبته الشخصية، فإن كان واثقا من ذاته فلن يحدث لديه أي تغيير، بل سيستمر في نهجه ويتّبع قيمه وأخلاقياته، وربما، تعاطفا مع الآخر، يحاول أن يحتويه أو يتقرب أكثر ليتفهم ألمه أو سبب غضبه، أما إذا كان يشك في ذاته ويعتمد على رأي الآخر في تحركاته وسلوكياته، فسيسقط في دوامة الحيرة، وهذا ما سيؤثر على أدائه، وبدلا من التقدم يبدأ برحلة التراجع! بل إن هنالك من يعتبر أن من حقّه أن يعترف الجميع بإنجازاته، ومن يشكّك فيها للحظة أو ينساها، يعلن عليه الحرب ولا يرحم أو يغفر حتى يحطّم ويلغي ذاك الذي تجرّأ واعتدى على مسيرته!
الآن بين هذا وذاك، ماذا يجب أن ننسى؟ وماذا يجب أن نتذكر؟ حسب رأيي، وليس فرضا على أحد، يجب أن نتذكر الأمل والفرح، وهذا ينطبق على الجميع ممّن لديه محبة في قلبه ومن تخلى عنها وألغاها، ما الفرح؟! إنه ليس سوى وجود مَن نحبّ في دائرة حياتنا، نقضي معهم أوقاتا سعيدة، ونصنع الذكريات معا بحلوها ومرها. وما الأمل؟ إنه ليس سوى الإيمان برحمة الخالق، وعليه فإن الأوقات المقبلة سوف تكون أفضل من تلك التي مرت. والآن مَن نتذكر؟ نتذكر كل من حرم من السعادة من الأمن من المأوى، وكل وحيد بعد فقدان عزيز، وكل جائع، وكل محتاج، وكل معسر، وكل مريض، وإن كنا نشعر بنعم الخالق فلِمَ لا ننشرها على مَن حولنا؟! لا يهم مستواك الاجتماعي وقدراتك المالية، القليل منك كثير عند غيرك... ابتسامةٌ في وجه يائس، وأذنٌ صاغية لقلب يئنّ، ولمسةٌ ليد ترتجف خوفا أو حزنا، ومسحُ دمعة ساخنة على وجه بائس، وزيارةٌ تفك عزلة؛ كلُّ ذلك فرحٌ يزرع فرحا، ومحبةٌ تجني أملا.
أتمنى أن نتذكر أنه رغم تنوّعنا، فجمالنا وتألّقنا، بل تميّزنا، يكمن في روائع انعكاسات هذا الموزاييك الملون، أتمنى أن نُعلِّم ونتَعلّم من الجميع أفرادا ومجتمعا، أن نسأل لنستوضح قبل الحكم، أن نصغي وأن نتأنى، ونمنح الفرص بدلا من إغلاق الأبواب، أن ندرك أهمية أصواتنا، وعليه نتدرب كيف نجدها ومتى وأين نطلقها، أن نؤمن بأن للآخر أيضا حقا في التعبير، وبأننا جميعا متساوون في مفهوم واسع اسمه الإنسانية؛ حق الآخر وإنسانيته من المفاهيم التي يجب ألا نتجاهلها، وأتمنى أيضا على إعلامنا أن يكون صوت المواطن وضميره، أن يكون واجهته المشرّفة في الداخل وفي الخارج، أن ينزل إلى المواطن البسيط ويفرد له مساحة كما يفردها للمثقف والناشط الاجتماعي والأكاديمي والتاجر والسياسي، فهو لا يريدنا أن نتحدث عنه بقدر ما يريد أن نصغي إليه، ولمؤسساتنا التعليمية والجامعية أن تكون منارات للتعلم والبحث والابتكار، تعمل على خدمة مجتمعاتها في تحقيق الطموحات والوفاء بالالتزامات نحوها، أن تقوم على الاحترام المتبادل ما بين عطاء واحترام وثقة ودعم من وإلى الجمهور الذي تخدمه؛ طلبة وتلاميذ، هيئة تعليمية وأكاديمية وإدارية، أمن صيانة وعمالا، مراسلين ومستخدمين، ولنتذكر أن المجتمع بجميع مؤسساته جسد واحد، بحاجة إلى الرعاية من جميع أفراده، المفاتيح الذهبية ليست تنافسا وتنافرا ولا حتى تصيّد أخطاء وفرض عضلات، إنما هي بناء وارتقاء.
نريد أن ننسى؟ فليكن! لننسَ القسوة والغيرة والتنافس، ولننسَ الحقد والكراهية والتنابز بالألقاب، ولننسَ النرجسية والتناحر في العلن وفي الخفاء، ولننسَ العنصرية والتفرقة والتكبر، ولننسَ الانتقام والتشفي، فما أعظم أن نغفر ونرحم لأننا قادرون على العطاء.