الطريقة التي تعمل فيها الطبقة السياسية في أميركا تجعلك في كثير من الأحيان تؤمن بأن الصدفة ليس لها وجود حقيقي، فكل ما يبدو للمتابع أنه طبيعي ويمضي وفق المستجدات هو في الحقيقة جزء من عملية مخططه يقوم بها طرف من أجل التغلب على طرف، أو تحقيق هدف، أو مجرد فرض واقع جديد ليس له بالضرورة مؤيدون كثر على الخارطة الشعبية.
ربما تابع معظمنا الحملة الأخيرة التي بدأت تصبح سمة لافتة للطبقة المخملية في أميركا، وأعني بها الاتهامات المتتالية بالتحرش الجنسي التي أصبحت اليوم حملة تنظيف واسعة أصابت بشكل أساسي السياسيين والإعلاميين والعاملين في صناعة الترفيه، حتى إن مجلة التايمز الشهيرة التي تصدر سنويا ما تعتبره شخصية العام، فضلت اختيار الحملة التي خصصت على مواقع التواصل الاجتماعي لاعتراف المتحرش بهم، والخروج علانية بتوجيه الاتهام لمن تحرش بهم.
السؤال هنا، هل يمكن القول بأن حالة المراجعة الأخلاقية التي يمر بها المجتمع الأميركي ناتجة عن صدفة أو إلهام فرد تمكن من خلق حركة شعبية اجتماعية ربما ستعمل على إعادة رسم خارطة قوانين العمل، وفرض أساليب تحقق إضافة لكل متقدم لوظيفة أو عمل خاص أو حكومي، خصوصا إذا ما علمنا أن كثيرا من الأصوات الشهيرة التي خرجت باتهامات ضد سياسي أو إعلامي أو فنان كان قد تم التحرش بهن، وهن في الأغلب نساء في أماكن عملهن، أو بسبب عملهن، أو من أجل الحصول على ميزة وظيفية.
شخصيا لدي قناعة بأن هذه الحملة في مجملها إيجابية لأنها تفرض نوعا من الرادع على أي مستغل أو متنمر أو متحرش يستغل نفوذه في الحصول على شيء ليس من حقه، ولكني في ذات الوقت لدي قناعة بأن هذه الحملة تأتي كنوع من بناء قضية هدفها في نهاية المطاف الضغط والتأثير على الرئيس ترمب الذي سبق أن اُتهم بقضايا شبيهة، لكنها لم تكن مهمة في نظر الناخب، نظرا لكون البديل في الانتخابات كانت أكثر فسادا وسوء إدارة عند الكثيرين، ففضلوا التغاضي عن أخطاء قد يكون ترمب وقع فيها في سبيل نجاحه وتحقيقه للوعود الانتخابية التي لامست المجتمع الأميركي.
خلال الأسبوعين الماضيين استقال ثلاثة سياسيين منتخبين، هم: الديمقراطي «جون كونيرز الابن»، والجمهوري «ترينت فرانكس» من مجلس النواب، والديمقراطي «ال فرانكن» من مجلس الشيوخ، إضافة إلى إعلان الجمهوري «بليك فارنتولد» أنه لن يترشح لمقعده في مجلس النواب في الدورة القادمة المقررة العام القادم، وذلك بعد أن طالته اتهامات بالتحرش الجنسي، وهي حالات تدلل على أن قضايا التحرش هذه أصبحت اليوم وسيلة للتصفية السياسية ليس المقصود فيها هؤلاء بالتحديد، بل باعتبار هؤلاء مقدمة لتوجيه أسهم الاتهامات للهدف الأول للمشرعين المناهضين للإدارة الأميركية الحالية، والإعلام الداعم لهم، أي الرئيس ذاته.
خسارة المرشح لمقعد ولاية ألاباما، والذي طالته هو أيضا اتهامات بالتحرش الجنسي الجمهوري العتيد «روي مور» ومعه الحزب الذي مثل الولاية للسنوات الخمس والعشرين الأخيرة، هي مؤشر بأن حملة التطهير هذه بدأت تقترب أكثر فأكثر من معاقل الرئيس، خصوصا أن ترمب كان قد دعم مور بشكل علني، وهو موقف أتى بناء على مشورة «ستيف بانون» الذي من الواضح أنه سيفقد ثقة الرئيس كداعم يميني لتنشيط وتقوية الحزب الجمهوري، بعد أن كان قد أقاله سابقا كمستشار إستراتيجي في البيت الأبيض.
حملة «MeToo» الإلكترونية اليوم لا يمكن النظر لها فقط على أنها حراك اجتماعي أخلاقي، بل هي حركة سياسية تنتهج تقية مرحلية، لكنها بدون شك سيكون لها تأثير كبير سياسيا في القادم من الأيام.