إننا على يقين من أن في لبنان من الشرفاء والوطنيين من يهتم بمصالح وطنه وعروبته، والقتال من أجل بقاء هذا الكيان جزءا من جسد الأمة العربية، وعامل بناء لها، لا معول هدم فيها
لبنان دولة صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان، إلا أنها ظلت تتعارك مع نفسها تارة، وميدانا لصراعات دول خارجية تارة أخرى. ولعل القارئ للتاريخ اللبناني يدرك حقيقة هذه التجاذبات التي شهدها لبنان على مدى عقود من الزمن، لكن مع كل هذه التجارب الدموية والمرهقة لم يتعلم لبنان من دروس التاريخ، ولم يسع للنأي بنفسه عن الإشكالات الخارجية، بل ظل يكرّر نفس الأخطاء كأنه أصبح مدمنا على ذلك.
خلال الأسابيع الماضية وبعد إعلان رئيس الوزراء اللبناني الرئيس سعد الحريري استقالته من منصبه بسبب ارتهان الدولة اللبنانية لسياسة حزب الله المرتبط بالنظام الإيراني، واختطاف الحزب للقرار الأمني والعسكري والسياسي في البلاد، وجدنا أن كثيرا من اللبنانيين في الداخل والخارج -خاصة أميركا وأوروبا- يتجاهلون المشكلة الحقيقية التي أدّت بالرئيس الحريري إلى الاستقالة، ويجنحون إلى تخرصات وتخمينات لا أساس لها من الصحة، بل وَفْق صور نمطية وانخداع بآلة إعلامية ضخمة أرادت تغيير مسار حقيقة المشكلة، والتغطية عليها والتركيز على جوانب هامشية، وإن كانت عاطفية.
لاحظنا التدرّج في الاتهامات الموجهة إلى السعودية، من اختطاف، إلى إقامة جبرية، إلى تحوّل هؤلاء إلى «المحقق كونان» في تحليل المقابلة التلفزيونية التي أجرتها المذيعة اللبنانية بورا يعقوبيان على الهواء مباشرة عبر قناة المستقبل اللبنانية، فذهبوا إلى ما لا يمكن التفكير فيه، من ملابس الحريري وطريقة جلسته، وساعته، والإضاءة، ونحو ذلك، وتجاهلوا كل ما دار في الحلقة من تركيز على المشكلة الأساسية.
العجيب أن الدم اللبناني أصبح رخيصا عند اللبنانيين بشكل لافت، فهذه الدولة الصغيرة يقتل حزب الله شبابها في سورية والعراق واليمن، ويستغل التنظيم، ومن ورائه الحرس الثوري، شباب لبنان لترويج المخدرات وتهريبها، وتدريب الميليشيات، وممارسة عمليات الخطف والنهب والقتل على الهوية، وأمور أخرى كثيرة لو ذكرناها لغضب الشعب اللبناني منا وحوّل مسار المقال أيضا إلى قضايا جانبية.
ألا يتساءل اللبنانيون عن مبررات الزج بعشرات آلاف الشباب اللبناني في المحرقة السورية، ومقتل ما يزيد على ألف شاب لبناني حتى الآن في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟ ألا يتساءل اللبناني الشريف عن مبررات قتال أبناء بلده في اليمن والعراق؟ أليس لبنان أحق بشبابه من صراعات طائفية ومشروعات سياسية عابرة للحدود ليس للبنانيين أي علاقة بها؟ ثم أين الشعب اللبناني من الاتفاقيات التي وقعها اللبنانيون التي تنص على ضرورة وضع جميع الأحزاب والجماعات السلاح وعدم ممارسة دور الدولة ووظيفتها؟
إننا نعيش في عصر ليس للشعارات البطولية الزائفة فيه أي مكان، وليس فيه إمكانية لحجب الحقيقة أو التهرب منها، وإن حاول البعض التشويش عليها وقيادة الشارع نحو قضايا جانبية لا علاقة لها بصلب المشكلة. نحن أمام دولة لبنانية اختطفتها إيران لخدمة مشروع سياسي وقومي، ووضعت قيادات «لبنانية» موالية لها لإدارة هذا المشروع، متجاهلة المصلحة الوطنية اللبنانية ومصالح اللبنانيين في الداخل والخارج. لنكن أكثر شفافية ومباشرة في الطرح، وندعُ كل لبناني لينظر ماذا قدمت إيران لبلاده غير القتل والدمار والتصعيد الأمني والطائفي، وإعادة الانقسامات اللبنانية إلى الواجهة، وكم استقبلت إيران من الشباب اللبناني الباحث عن فرص وظيفية كريمة، وكم حجم استقبال إيران للصادرات اللبنانية، وكم يحوّل اللبنانيون -إن وجدوا- من إيران إلى وطنهم للمساهمة في إنعاش الاقتصاد المحلي، وما الخلافات اللبنانية التي تدخلت فيها إيران ونجحت في حلها؟
إذا كان الشعب اللبناني راضيا كل الرضا عن المسار الذي تسير فيه بلاده وممارسات حزب الله الإرهابية، فليعلنها صراحة حتى يخرج من حالة الضبابية التي يعيشها، وحينها فإن الخصومة التي حاولت كثير من الدول حصرها في تنظيم حزب الله الإرهابي ستكون شاملة -لا قدّر الله- لأطياف الشعب اللبناني المختلفة، وعندما تهاجم عناصر حزب الله دول المنطقة فإن هذا التحديد والحصر سيتحول إلى تعميم على اللبنانيين كافة، الذين وقفوا مؤيدين لممارسات الحزب الطائفية والإرهابية، وحينها قد تكون الدول تحررت من كثير من الحسابات والمواقف المحرجة التي ظلت تراعيها وتحرص على الدقة في إبراز مواقفها منها. إننا على يقين من أن في لبنان من الشرفاء والوطنيين من يهتم بمصالح وطنه وعروبته، والقتال من أجل بقاء هذا الكيان جزءا من جسد الأمة العربية، وعامل بناء لها، لا معول هدم فيها، ولكن مثل هؤلاء يحتاجون إلى إطلاق صرخة وطنية في وجه حزب الله وأتباعه، بأن لبنان لن يبقى مختطفا ومرتهنا لمشروعات عابرة للحدود، بل إن مصلحة هذا الوطن أولا.