ملف التناغم الاجتماعي ليس مطلباً حقوقياً حالماً بل ضرورة اقتصادية ملحّة، فالعامل الذي يشعر بالمساواة الحقوقية والأمان الوظيفي والانتماء الاجتماعي ترتفع معدلاته الإنتاجية أضعاف ما يمكن أن تجبره عليه التهديدات بالاستبدال

العمالة الوافدة تشكّل قيمة مضافة ذات أهمية كبرى، والسعودية تتمتع بها بشكل تنافسيّ بسبب الإطار القانوني والاقتصادي الذي جاءت به. وليس أدلّ على هذه القيمة المضافة من سرعة انتقال السعودية عبر مراحل البناء والتنمية في ظرف عقود قليلة، وهو ما لم يكن من الممكن تحقيقه لو اعتمدت السعودية على مواردها البشرية المحلية فقط لضخامة الطموح وقلة الإمكانات. ولكن الظروف تتغير، والماكينة الاقتصادية تزداد تعقيداً، وما تتطلبه مراحل التأسيس ووضع البنى التحتية من موارد وأطر قانونية واقتصادية يختلف عما تتطلبه مراحل التكامل الاقتصادي والمرونة التجارية مع العالم. فلم يعد ثمة اقتصاد بوسعه النمو بمعزل عن العالم حتى لو اختزن في داخله ما يكفي من الموارد والقدرات. واليابان تدللّ على ذلك بوضوح باعتبارها واحدة من أكثر الدول اعتمادا على المورد البشري الياباني وحده دون غيره في مراحلها الأولى من بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الألفية قبل أن تدخل بعد ذلك في دوامة من الصعوبات والعوائق أدّت إلى تدهور معدلات نموها الاقتصادي في السنوات الأخيرة. كثيرون عزوا ذلك إلى مشكلتين أساسيتين وقع فيهما اليابانيون. الأولى اقتصادية، وهي انكفاء السوق اليابانية على ذاتها، والثانية اجتماعية، وهي صعوبة الاندماج مع المجتمع الياباني. فاليابانيون الذين ملأت منتجاتهم أسواق العالم دأبوا على وضع قيود حمائية صعبة على أي منتج عالمي يدخل اليابان لمنعه من منافسة الشركات اليابانية في الداخل. اليابانيون وضعوا السوق الدولي نصب أعينهم منذ بداية نهضتهم الاقتصادية، ولكنهم سلكوا إلى ذلك طريقاً واحدة فقط وهي تصدير بضائعهم إلى العالم، وحماية سوقهم من بضائع العالم. ولربما كانت هذه الاستراتيجية ناجحة في البدايات ولكنها لم تعد مجدية اليوم. كذلك فإن المجتمع الياباني من أصعب المجتمعات اختراقاً وأكثرها تعنتاً في قبول الآخر. هذا لا يعني أنه مجتمع عنصريّ بالضرورة، ولكنه شديد الاعتداد بكينونته العرقية حتى إن ثمة كوريين يعيشون في اليابان لأربعة أجيال متعاقبة وما زال اليابانيون يعدّونهم غرباء، وإن حملوا الجنسية وتحدثوا باللسان وانغمسوا في الثقافة.
الاقتصاد الياباني على حجم مقدّراته ومكتسباته مضطرٌ اليوم إلى هذا التغيير الصعب (اقتصادياً واجتماعياً) من أجل البقاء على قيد المنافسة، ولاسيما قد أزاحهم الصينيون من المرتبة الثانية بينما ما زالت دولٌ أخرى تتربص بالمركز الياباني مثل الهند وألمانيا والبرازيل، فطفقت اليابان تحت ضغط المنافسة الحادة تستقدم العقول الأجنبية لتدوير عجلة الابتكار من جديد، وتخفف من قيود الاستثمار الأجنبي لتدوير عجلة التنوع والمنافسة. إذا كان هذا الاقتصاد الهائل قد اضطر إلى ركوب الصعب الذي لم يتوقع أن تجبره الظروف عليه فإنه من باب أولى للاقتصادات الواعدة مثل السعودية أن تعي أهمية هذه التحديات التي عرقلت اقتصادات أكبر وأعرق مثل الاقتصاد الياباني، فتبدأ من حيث انتهى الآخرون حتى لا تصطدم بما اصطدموا به. صحيح أن السعودية فتحت سوقها لبضائع العالم ولكن بضاعتها في المقابل، باستثناء النفط ومشتقاته، ليس لها أي ذكر في أسواق العالم، وهذه حالة شبيهة بالمشكلة اليابانية الأولى بشكل معكوس. أما المشكلة اليابانية الثانية فتنطبق علينا إلى حد كبير رغم الملايين من العمالة الوافدة التي تعيش بين ظهرانينا، ولكننا عجزنا أن نستخلص منها أكثر من الفائدة المباشرة المتمثلة في خفض التكلفة متجاهلين الفوائد غير المباشرة التي بدأت أهميتها تتزايد في ظل الاقتصاد العولميّ، وهي فوائدٌ لا تتحقق إلا إذا تمكّنا من التعامل مع الملفات الثلاثة الأساسية: التناغم الاجتماعي، والسياسات الاقتصادية، والمرونة الثقافية.
ملف التناغم الاجتماعي ليس مطلباً حقوقياً حالماً بل ضرورة اقتصادية ملحّة، فالعامل الذي يشعر بالمساواة الحقوقية والأمان الوظيفي والانتماء الاجتماعي ترتفع معدلاته الإنتاجية أضعاف ما يمكن أن تجبره عليه التهديدات بالاستبدال و(الخروج النهائي). ومن الجدير بالذكر أن كثيراً من العمالة الوافدة في السعودية تكون السعودية محطتها الأولى، بينما محطتها الثانية هي دول المهجر مثل أميركا وكندا وأوروبا. هذا يعني أن مرحلة (اكتساب) الخبرة تتم في السعودية، ومرحلة (تطبيق) الخبرة تتم في دول أخرى يضمن فيها العامل مستقبله ويتحقق له فيها انتماؤه. وهذه خسارة تراكمية يتعرض لها الاقتصاد السعودي بشكل دائم، وليس بوسعه تعويضها إلا باستقدام كفاءات أجنبية باهظة التكلفة بينما كان بوسعه الاحتفاظ بالكفاءات المهاجرة بتكلفة أقل وببعض التغييرات الأساسية في ملف (التناغم الاجتماعي) تجعل العامل يشعر بنفس مستوى الأمان المستقبلي الذي يشعر به في دول المهجر. وهو بالتأكيد محقّ في أن يبحث عن مكان آمن للعيش، يحافظ فيه على ما كدح من أجله وما سيبقيه لأبنائه، ولا يظلّ تحت رحمة كفيل يحقّ له إنهاء خدماته في أي وقت.
إن التنويه بأهمية جعل المجتمع السعودي مكاناً آمناً للعامل الوافد هو أهم من توضيح كيفية ذلك. لأن الكيفية ليست معقدة بل يتم تطبيقها في دول كثيرة في العالم، ومنها ما هو قريبٌ جداً من ظرفنا الثقافي والاجتماعي. إلغاء نظام الكفالة، ومنح حقّ الإقامة الدائمة، هو بداية الطريق الذي لا ينتهي بالمساواة في الفرص والحقوق والرعاية الاجتماعية. باختصار، أن يشعر الوافد بديمومة حياته في السعودية... تجعله يزرع فيها من جهده وخبرته وماله ما لم يكن ليفعله لو أنها ظلت دائماً محطة موقتة في حياته المهنية. وهذه قيمة اقتصادية مركبة ومضافة التفتت إليها دول المهجر من زمن طويل، فاهتمت بملف التناغم الاجتماعي لتجني من ورائه نمواً اقتصادياً هائلاً، وبدأت بعض دول الخليج تسير على نهجها. وإذا ظنّ البعض أن إشراك العامل الوافد في حقوق المواطن يؤدي بالضرورة إلى نقص نصيب المواطن، فلعل المقالة القادمة عن ملف (السياسات الاقتصادية) تفنّد هذه النظرة البسيطة، وتثبت العكس تماماً.