كلما زاد إيمان الشخص بأنه ممسوس أو محسود بدأ عقله يستجيب لإيمانه ويوهمه بأعراض مرضية غير حقيقية، بذلك يزيد يقينه بأن الماء والزيت المقري عليه هو علاجه الوحيد
المكتشف ومتسلق الجبال الإنجليزي فرانك سمايث (Frank Smythe) كتب عن إحساسه بوجود شخص خفي (غير مرئي) يتسلق معه، طوال رحلته لقمة جبل إيفرست في النيبال عام 1933. من شدة يقينه بوجود هذا الشخص وصل به الأمر إلى أنه قَدّم له قطعة من الكيك مشاركة لشريكه الخفي. في هذه الظاهرة التي تعد شبه غريبة، فرانك لم يُحكم عليه لا بالجنون ولا بالهلوسة من مجتمعه، بل إن ذلك أثار فضول العلماء لاكتشاف سبب وجود هذا الرفيق الخفي.
لو أن فرانك كان فردا من مجتمعنا، على الأرجح سينتهي به الأمر في مجلس أحد الرقاة المُدّعين أنهم مختصون بطرد الجان، وستكون الوصفة العلاجية رقية مع نفث ماء على الوجه ودهان زيت على الرأس لطرد المتسلق الخفي. إذا لم يكن هناك منفعة بعد شربه «لجوالين» من الماء «المقري عليه» مع صرف آلاف الريالات على الجلسات الخاصة، سينتهي به المطاف «بكيّة» على الرأس والبطن، لأنه إن لم يكن مس فمؤكد أنه القرين.
في العالم الآخر وبعد تقريبا 80 سنة من حادثه فرانك، توصل فريق أبحاث سويسري في لوزان عام 2014 لإظهار سبب وجود هذا الرفيق وهو تفسير لأي حادثة مماثلة. ثلاث مناطق في الدماغ
(The temporoparietal junction, the insula and thefrontal-parietal cortex) مسؤولة عن دمج الإشارات الحسية والحركية داخل وخارج الجسم وعملها بشكل منتظم. في حالة ظهور الإحساس بالشخص الخفي يكون هناك لخبطة في دمج عمل هذه الإشارات المتعددة، وهي حالة غير مرضية.
يبدو في واقعنا أن تفسير الأمور يكون أكثر صعوبة إذا كان من منظور علمي. لذلك نلجأ إلى استعمال الجان «كشماعة» لتفسير الظواهر الغريبة. حديث لي مع أم يعاني ابنها تأخرا في القدرة على الكلام منذ الولادة مع فرط في الحركة. الحديث كان مليئا بالدموع على حالة تدهور صحة الطفل لسنين. الغريب في الأمر أن الطفل لم يُعرض على طبيب بالرغم من بلوغه سن السابعة. ذلك كان نتيجة اقتناع الأم التام بأن ما يعانيه ابنها هي مشكلة روحية (مس) وليست عضوية، وبحسب ما سمعته من المعالجة الشعبية أنه ليس بأي جان، بل جان على الأعصاب، وذلك يحتاج جلسات قراءة عديدة حتى يخرج. تشخيص بهذه الدقة، كيف يكون من معالجة تُعد نفسها طبيبة، لم تكمل حتى المرحلة الجامعية.
جرعات الوهم التي تسقيها هذه المعالجة أمرضت هذه الأم بجانب ابنها. فأصبحت طبيبة الوهم تأخذ أجرا لا يقل عن 1000 ريال للجلسة العلاجية الواحدة للأم وابنها. ذلك الطفل الذي لم يُعرض على أي أخصائي صعوبات نطق وتخاطب بقدر ما عُرض جسده على مشارط الحجامة، من المسؤول عن حمايته من جهل الوالدين وجشع تُجّار الوهم؟ وكيف للعقل أن يغيب لعدة سنوات عن هذه الأم؟ دون محاولة واحدة منها أو من زوجها لأخذ الطفل لأقرب مركز صحي.
على الأغلب، لو أن فرانك كان ابنًا لأم يسيطر عليها الوهم لما استطاع أن يؤلف 25 كتابا بعد حادثه قمة جبل إيفرست كما فعل في الحقيقة، ولما استطاع اكتشاف وادي الزهور بالهيمالايا، ولما استطاع أن يكون مهندس إلكترونيات ومحاضرا ومؤلفا ومصورا ومكتشفا ومتسلق جبال.
هذه الأم المتعلمة هي نموذج يُعبّر عن حالات كثر بهذا الاعتقاد. فكيف لنا أن نحافظ على أنفسنا من سيطرة الوهم علينا واستغلال ضعفنا؟ العقل الواعي في هذه الحالات يغيب لأن الشخص يُستغل بأقوى نقطة تسيطر عليه، وهي مرض الأبناء (لعب على المشاعر). فبعد زراعة أفكار الوهم يصبح في وضع لا يميز ولا يجادل ولا يحلل، إنما يتقبل ما يملى عليه. عندها يكون سلوكه يدار بعقله اللاواعي (الباطني) في حاله شبيهة بالتنويم المغناطيسي. كتب دكتور علم النفس جوزيف ميرفي (Joseph Murphy) في كتابه قوة عقلك الباطن، إن «عقلك الباطن مثل التربة التي تقبل أي نوع من أنواع البذور، سواء كانت صالحة أو فاسدة».
فكلما زاد إيمان الشخص بأنه ممسوس أو محسود بدأ عقله، يستجيب لإيمانه ويوهمه بأعراض مرضية غير حقيقية. بذلك يزيد يقينه بأن الماء والزيت المقري عليه هو علاجه الوحيد. فيبدأ الشعور بضعف الأعراض ثم التشافي، لكنه ليس في الحقيقة من الجان، بل التشافي من الوهم. ما يحدث في مجالس الرقية يحدث تماما في الكنائس. ذكر الدكتور ميرفي في نفس الكتاب أن الكهنة في العصور الوسطى كانوا يسيطرون على عقول الناس اللاواعية في مسألة الشفاء، حيث إنهم كانوا يأمرونهم بشرب مزيج من السحالي ونبات المر تحت القمر في أيام محدودة من الشهر. الشفاء كان يتحقق للمرضى ولكن ذلك ليس بفضل السحالي وإنما بقوة إيمانهم بالشفاء بعد الله.
ضعف النفوس آفة للمجتمع. التشافي من الوهم يزيد من سمعة هذه التجارة، وأيضا ضعف التشخيص الطبي والعلاجي في المستشفيات يزيد من رصيد مرتادي هؤلاء المحتالين، حتى إن بعضهم أصبح الدخول عليه لا يكون إلا بموعد أو رقم. الوضع يحتاج إلى تثقيف مجتمعي، وضوابط وتصاريح لمجالس الرقية الشرعية.