أبها: سلمان عسكر



بات موضوع الإجابة عن السؤال العريض: «ماذا بعد هزيمة داعش؟» هو الشغل الشاغل لأرباب السياسة وقادة الأجهزة الأمنية الدولية، فبعد سقوط معقلي دولة الخلافة المزعومة، الموصل والرقة، صارت مسألة هزيمة «داعش» مجرد تحصيل حاصل، وصار لا بد من بحث السيناريوهات التي ستعقب هذه الهزيمة، بما يكفل عدم عودة هذا التنظيم ليشكل شوكة تقض مضاجع معظم دول العالم التي بلغتها شروره وآثامه وعملياته الإرهابية.
وفي إطار البحث عن إجابات، فتحت «الوطن» هذا الملف، طارحة 6 أسئلة على خبراء وباحثين في شأن المجموعات والحركات الإسلامية، وفي موضوع الإرهاب والتطرف.
إذ يؤكد نائب رئيس مركز دراسات الأمن الشامل في تونس، الخبير الإستراتيجي والأمني في الجماعات الإسلامية الدكتور أعليه علاني، أن أسئلة مثل: هل اقتربت ساعة النهاية لـ»داعش» في العراق وسورية؟ هل هي نهاية تنظيمية عسكرية مؤقتة أم دائمة؟ ما مصير مقاتلي «داعش» أبناء البلد والأجانب؟ وأين سيتوجهون لاحقا؟ وكيف سيتفاعل المجتمع المدني مع هؤلاء؟ وما تداعيات رجوع المقاتلين إلى بلادهم؟ وكيف سيتم تحييد خطرهم على المدى القريب والبعيد؟، وغيرها من الأسئلة، تطارد صُنّاع القرار العرب والأجانب، والكل يتهيأ لما بعد «داعش» الذي حطم الأوطان وخرّب الاقتصاد، وأضر بالأمن المحلي والإقليمي والدولي.

دولة إلى زوال
 

يطرح علاني تساؤلا مهما، يقول: هل يعجّل الإعمار بنهاية «داعش» عسكريا في العراق وسورية؟
ويجيب: «لا شك أن «داعش» كتنظيم قائم وكـ»دولة» تحتل مساحة جغرافية في طريقها إلى الزوال، لأنها خسرت جزءا مهما من الأرض، وفقدت آلاف المقاتلين، وتقلصت مواردها المالية كثيرا، وأصبحت تحت مرمى نيران الأحلاف الدولية المقاومة للإرهاب».
وبالتالي، لا أمل لها في الاحتفاظ بما كانت تسميه «دولة الخلافة» المزعومة، واليوم خلّفت «داعش» وراءها دمارا كبيرا في كل من سورية والعراق، وبشكل أقل في ليبيا. وخلّف هذا الدمار نزوحا وهجرات بالملايين، أربكت الدول الغربية والعربية والخليجية. ومما عجّل بهزيمة «داعش»، موقف الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة ترامب التي لا ترى ما كان يراه سلفُها أوباما، من أن القضاء على «داعش» سيستغرق 10 سنوات أو أكثر.
وهنا، التقى ترامب، الرئيسَ الروسي بوتين، للمرة الأولى، للتعجيل بالقضاء على «داعش» مع اختلاف في التفاصيل حول مرحلة ما بعد هزيمة هذا التنظيم.
وأعتقد أن تلك الاختلافات ستنتهي بتوافقات، لأن القوتين العظميين لا ترغبان في المشاركة في حرب استنزاف، مثلما حصل في أفغانستان.
وقد اقترب موعد الإعمار الذي سيملأ جيوب الشركات العالمية الكبرى، مقابل عودة البسمة إلى سكان العراق وسورية وغيرهما، عندما يرون عودة البنية التحتية ودوران عجلة الاقتصاد، ويرون بالخصوص عودة الأمن عماد كل استقرار سياسي واقتصادي، وهذا لن يتأتّى إلا بالقضاء على «داعش» ومثيلاتها.
لكن هذا التنظيم الأخطبوطي له أجندته الخاصة، إذ سيعمد في الداخل إلى زرع خلايا نائمة، أما في الخارج فإن مقاتليه الأجانب حزموا حقائبهم منذ أشهر للاستيطان في أماكن أخرى، لأن دولة «داعش» ليست لها حدود ثابتة فهي مثل «دولة الإخوان» تقوم في أي مكان تتأسس فيه «الجماعة الإسلامية».
 

خنجر في الخاصرة
يشدد علاني على أن مقاتلي «داعش» الأجانب خنجر في خاصرة العالم الحر، وأن كل الدلائل تشير إلى أن «داعش» يريد لملمة صفوفه وإعادة تشكيل هياكله بعد الخسارة الفادحة التي مُني بها، خصوصا في صلب قيادته السرية التي كانت تخطط وتدير المعارك الميدانية، ولا يُعرف من رموزها إلا القليل. ويحاول «داعش» على الأرجح، حاليا، تجديد هياكله السرية والعلنية، في ظل تضارب الأنباء حول مقتل زعيمه البغدادي من عدمه.
وتشير عدد من التقارير إلى أن لـ»داعش» 3 وجهات قادمة، وهي: إفريقيا وأوروبا ومناطق في جنوب شرقي آسيا، فإفريقيا قارة بكر من ناحية الثروات المعدنية والطاقة التي تُسيل لعاب الدول الكبرى شرقا وغربا. وبالتالي ستكون إحدى ساحات التوتر المقبلة، خصوصا أن بعض الحكومات الإفريقية غير قادرة على ضبط حدودها بشكل ناجع وغير مؤهلة لمراقبة صحاريها الشاسعة.
أما أوروبا، فهي مستهدفة من «داعش» بحكم وجود خلايا نائمة هناك، ووجود غضب اجتماعي في بعض الأحياء المهمشة، مما يجعل استمالة عناصر إرهابية أمر ممكن، إضافة إلى أن ترسانة حقوق الإنسان في أوروبا تشكل إحدى الثغرات التي ينْفُذ منها الإرهابيون للقيام بعملياتهم الإرهابية.
أما جنوب شرقي آسيا، وما حصل تحديدا في الفلبين، فيشير إلى أن تنظيم داعش له خطط طويلة المدى في هذا البلد، ويصعب أن يتم هزمه أمنيا، لأن المعارك الأمنية القادمة تقوم أساسا على الاستخبارات، وعلى مقاربة الأمن الشامل بأبعادها الاجتماعية والأمنية والفكرية، وإلا فإن كل الانتصارات العسكرية تبقى مؤقتة وهشة، والفلبين عليها أن تعمل كثيرا، لانتهاج مقاربة الأمن الشامل.
ويمكن أن تكون لـ»داعش» وجهة رابعة في الخليج، إذا لم يتم التوصل إلى إقناع قطر بالانخراط في منظومة الأمن الخليجية، والتوقف نهائيا عن تمويل الإرهاب، وإيواء الإرهابيين.

ضحية طرفين
يرى علاني أن مصير أسر عناصر «داعش» يجب أن يحظى بالاهتمام والدراسة، وهو يقول «هذه الأسر كانت مجبرة على التأقلم مع أمراء الحرب، وهي في الحقيقة ضحية لطرفين: الأول حكومي لم يفعل كثيرا لكسب ود السكان وتلبية مطالبهم في التنمية، وحمايتهم أمنيا، وهو ما حصل مثلا مع حكومة المالكي في العراق. أما الثاني: فهم مسؤولو «داعش» بعد سيطرتهم على تلك المناطق، وإجبار السكان على تنفيذ تعليماتهم، وقد دفعوا فاتورة ذلك أضعافا مضاعفة».
واليوم، لا بد من طمأنة تلك الأسر، وكسبها وإقحامها في الدورة الاقتصادية، وضمهم إلى حضن الدولة، ونحن نتذكر أنه عندما اتُّخذ قرار توحيد الألمانيتين في أكتوبر 1990 كان تدفُّق رؤوس الأموال، وإقامة المشاريع الكبرى، وبناء الحلم الألماني القوي والموحد، هو الذي ضمّد جروح الماضي، وجعل من ألمانيا أقوى دولة اقتصادية في أوروبا. وأعتقد أن المجتمع المدني في العراق وسورية وليبيا، وغيرها من البلدان، لا بد أن يدفع في اتجاه طي صفحة الأحزان، حتى تُطوى صفحة «داعش» فعليا.
أما أُسر الدواعش المقاتلين من الأجانب، فعليهم إقناع هؤلاء الإرهابيين بالامتثال إلى القوانين القضائية في بلدانهم، فقد كان عدد هؤلاء المقاتلين أثناء الحرب يقارب الـ35 ألفا، وربما يكونون اليوم في حدود الـ17 ألفا، حسب بعض التقارير، وهو رقم مهم يطرح بقوة مسألة تأهيلهم داخل بلدانهم، ومن الطبيعي أن تخشى تلك البلدان رجوعهم، لما اكتسبوه من خبرة في القتال والتفجير والتفخيخ.
وهنا، يأتي دور هيئات المجتمع المدني، كقوة اقتراح وإسناد وضغط أدبي، كي تساعد في تقديم البرامج الأساسية في تأهيل هؤلاء المقاتلين على كل المستويات.
وقد تفطنت المملكة العربية السعودية إلى ذلك، عندما قررت في مؤتمر قمة الرياض إطلاق مركز اعتدال في 21 مايو 2017، لكن لا ننسى أن التأهيل يحدث بعد صدور الأحكام القضائية، لمعرفة درجة خطورة الأطراف المشاركة في القتال، وطبيعة برنامج التأهيل الذي يلائمهم. ونشير إلى أن برنامج التأهيل يحتاج إلى مقال مفصل.
 

إصلاحات عميقة
يشدد علاني على أن حماية الدولي والمجتمعات من خطر ما بعد «داعش»، يحتاج إصلاحات عميقة، خصوصا في الجانب الاجتماعي والتعليمي والثقافي، وتوفير الخدمات الأساسية ووسائل الترفيه، وجعلها متاحة لأوسع الطبقات الاجتماعية، وإعادة النظر في الخطاب الديني بشكل جذري، وعلى جرعات متكررة، لنحت خطاب ديني ينظر إلى المستقبل أكثر مما ينظر إلى الماضي، وذلك هو سر خلود وديمومة الإسلام.
فكُتُبنا التراثية أفاضت في الحديث عن الماضي، ولا نحتاج اليوم إلى مزيد الغوص فيه، بل نحتاج إلى تعديل عدد من مقارباته ومقولاته، حتى تلبي طموح أجيالنا.
فشبابنا وفتياتنا الذين اجتذبهم «داعش» كان نتيجة تأويل وتوظيف سيئ لبعض الاجتهادات الدينية القديمة، ولذلك نرى أن الخطاب الديني الناجح هو الذي يركز في ثلاثة أرباعه ومطالبه ومقارباته على الحاضر والمستقبل، ويركّز في ربعه المتبقي على المحطات الدينية المضيئة فقط في تراثنا الديني القديم، وسنعود إلى هذا الموضوع لاحقا لأهميته القصوى في مكافحة التطرف.
 

3 ركائز
يؤكد علاني أن مكافحة الإرهاب في مرحلة ما بعد «داعش» تقوم على 3 أشياء:
أولا: تطوير المنظومة الاستخباراتية، لأن الحرب على «داعش» والقاعدة مستقبلا ترتكز في 70% من فاعليتها على المعلومة الاستخباراتية، لذلك لا بد أن يكون التعاون بين الدول الشقيقة والصديقة مهما، لأن خطر «داعش» أصبح دوليا ويهم الجميع.
ثانيا: العمل على تطوير منظومة الأمن الشامل، وحثّ الحكومات على القيام بكثير من الإصلاحات المشار إليها في الجانب الاجتماعي والاقتصادي، والتعليم والإعلام والخطاب الديني، ولكن ليس بأسلوب وعظي، بل بأسلوب علمي منهجي يقوم على إعمال العقل والإقناع والاقتناع الحر، وهذا يتطلب كفاءات وخبرات مختصة. ثالثا: الشروع في نحت ملامح إستراتيجية مكافحة الإرهاب السيبرني. فالإرهابيون يمررون رسائلهم عبر الواب المظلم Dark web، ويُتقنون التخفي إلكترونيا، ويقدمون خطابهم التكفيري الإلكتروني بأسلوب مؤثر أحيانا، وهو ما يستوجب التصدي لهم بخطاب إلكتروني بديل، له مواصفات الطرافة والإقناع، وبالقدرة على اختراق ممراتهم وشبكاتهم الإلكترونية.
وهذه هي معركة المستقبل الحقيقية ضد الإرهاب. وبالتالي لا بد من عقد ورشات مع أهل الاختصاص في نحت ملامح إستراتيجية مكافحة الإرهاب السيبرني.
أتوقع أن التعاون المعلوماتي والاستخباراتي سيتطور مستقبلا، وأشار الرئيس ترامب مؤخرا إلى أنه سيركز جهوده على محاربة الإرهاب الإلكتروني، وهي فرصة مهمة للإسراع باكتساب الخبرة في هذا المجال، وأعتقد أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد محمد بن سلمان، ومسؤولي دول الخليج الأخرى، ومصر، لن يألوا جهدا في خوض تجربة مقاومة الإرهاب السيبرني خصوصا، وتطوير مقاربة الأمن الشامل عموما.
 

كيف نقاوم خطر «داعش»
توسيع الخدمات الأساسية ووسائل الترفيه وجعلها متاحة للجميع
إعادة النظر في الخطاب الديني بحيث ينظر للمستقبل أكثر من الماضي
وجود خطاب ديني يركز في ثلاثة أرباعه ومطالبه ومقارباته على الحاضر والمستقبل

الوجهات المقبلة المتوقعة لـ»داعش»
أوروبا

وجود خلايا نائمة فيها يمكن تحريكها بسهولة
وجود غضب اجتماعي في بعض الأحياء المهمشة

ترسانة حقوق الإنسان فيها تشكل ثغرة ربما يمر عبرها الإرهابيون
جنوب شرقي آسيا

للتنظيم امتداداته وخططه في الفلبين

يصعب على الفلبين تحقيق مقاربة اجتماعية وأمنية وفكرية لهزيمة «داعش»
 

غياب مقاربة الأمن الشامل عن الفلبين

الخليج

ابتعاد قطر عن الانخراط في منظومة الأمن الخليجي

دأبها على تمويل الإرهاب وإيواء الإرهابيين
 

إفريقيا

قارة بكر من ناحية الثروات المعدنية والطاقة، وبالتالي ستكون إحدى ساحات التوتر المقبلة.
ضعف بعض حكوماتها في ضبط حدودها وصحاريها
 

حلقة (1-5): المظلومية تعيد داعش إلى تكتيكات الخلايا العنقودية في العراق وسورية

حلقة (2-5):غياب التنسيق الاستخباراتي يعرّض أوروبا لـ57 هجوما داعشيا

الدواعش يعودون إلى حواضنهم بعد الفرار من سورية والعراق (3-5)