خامنئي يردد في كل مناسبة قبل وبعد الاتفاق النووي أنه ليس أمامهم أي خيار غير مواصلة القتال، وجعلها فكرة طاغية، والجهاد لا نهائي، لكن هذا التهديد لا يدعمه الواقع في بلد مثخن ساسته بالكلمات الجوفاء
من البداهة بمكان أن الذي يملك القوة يمكنك أن تصدق تهديداته، ففي شهر أغسطس الماضي صرحت مندوبة أميركا في الأمم المتحدة بما يمكن تصديقه: بأنها إذا رفضت ?إيران ?طلبا شرعيا بتفتيش منشآتها العسكرية فالاتفاق النووي سيصبح «حلما»، وأضافت بعد أيام بأنه إذا قرر ترمب إبلاغ الكونجرس بأن إيران لا تفي بالتزاماتها في الاتفاق النووي فلديه أرضية صلبة، وصولا إلى كل تصريحات ترمب حيال الاتفاقية التي انتهكت إيران روحها، وأنها أسوأ اتفاقية يمكن تخيلها، وأن إيران كانت على وشك الانهيار حتى أعطتها أميركا من خلال الاتفاق النووي فرصة للحياة بصفقة (قيمتها) 150 مليار دولار، وأنه لن يكون لطيفا مثل سلفه أوباما، وفي كلمته خلال شهر سبتمبر الماضي خاطب العالم من خلال الجمعية العامة في الأمم المتحدة مطالبا أن يقف العالم معه ضد إرهاب إيران، ثم تبعته ميزانية الدفاع التاريخية الأميركية التي جاوزت 700 مليار دولار.
هكذا يمكن أن تكون مؤشرات مستقبل الأزمة القائمة بين أميركا والغرب مع إيران في الوقت الذي كانت قد فقدت إيران مصداقيتها عند مؤيديها عندما اندلعت الثورة السورية سلميا في بدايتها بالأهازيج وآمال الحرية قبل القتل، فوقفت إيران ضد الشعب السوري ومع طغيان بشار، مرورا بتأييدها الحوثيين الذين وقفوا هم كذلك ضد حرية الشعب اليمني ونتائج ثورته.
والوعي العام بانكشاف حقيقة إيران تعيه جهات الرصد الأميركي التي ترى انحدار السمعة الإيرانية التي كانت تنادي بالحرية والسير على خطى ثورتها، وتزداد السمعة انحدارا بعد الاتفاق النووي والصلح مع (الشيطان الأكبر)، وبدأت حاجة إيران إلى عدو آخر مع علمها بأن الشعارات الفارغة التي تستعملها ما زالت لها آذان شكلية مما تستخدمه بوراثة تاريخية، وقد قاله وزير الخارجية السابق ومستشار الأمن القومي الأميركي الشهير هنري كيسنجر في فصل لا يخلو من العقل الاستعماري عن أميركا وإيران كمقاربة للنظامين في كتابه (النظام العالمي) الذي صدر في عام 2014، قال عن هذه الظاهرة الصوتية إنه: لم يعد يأخذ بها العالم بشكل جدي، وقد يكون السبب الرئيس فيها تكرارها واعتياد ذلك والذي لا يتوقف منذ ثمانية وثلاثين عاما.
فهم يتلقون الظاهرة الصوتية بطريقة مختلفة عن عقلية مؤيدي الملالي، لأنها ثقافة حتى بالنظر إلى تاريخ العلاقات الأميركية الإيرانية التي بدأت بأول اتفاق تجاري بينهما يرجع إلى عام 1850، وفيه نصوص تتقاطع مع نفس الظاهرة التي امتلأت بالتعالي المتأصل القديم الجديد مما ورد في مقدمته (رئيس جمهورية أميركا وجلالة الشاه المعظم والعالي مثل كوكب زحل، صاحب السيادة الذي تخدم الشمس رأيه، والذي يرقى بهاؤه وجلاله إلى مستوى السماوات)، علما بأن النص لإيران البلد المحتاج والمستجدي لتجارة مع أميركا يخفف عنهم ابتزاز الاستعمار الإنجليزي الأشد في ذلك الوقت، ومع هذا فالعبارات مثخنة بالظاهرة الخرافية، وهو على حد تعبير كيسنجر البلد الوحيد الذي يحترم ماضيه قبل الإسلام في الشرق الأوسط، وغير مذهبه إلى المذهب الشيعي بداية القرن السادس عشر الميلادي، تمايزا وكيدا في الدولة العثمانية السنية، إلا أن البراغماتية الأميركية تنظر إلى النتائج ومتبسمة في الخرافة التي تشكلت حديثا بمصطلحات من شبه التأليه البشري، وصولا بمفهوم الشاه شاه في صور جديدة كآية الله وقدس الله سره وظله وما في فلكها، فالميراث الإمبراطوي الذي كان يرى نفسه مركز العالم خلف وراءه وأبقى الكثير من هذا النوع كرؤيته الوهمية إلى الذات، وبنفس النظر درس كيسنجر الحالة بعد الثورة ضد الشاه في يناير 1979 التي رآها قلبت الشرق الأوسط رأسا على عقب، ولم تقم نتائجها على نظام ديمقراطي وترتيبات الحداثة المؤسسية، فأي مفهوم لمخالفة ذلك ولو بمعارضة سلمية سمته هرطقة وكفرا، فهي تسحق الحريات، وتبقي الانتخابات الشكلية، ومن يحكم إيران هو القائد الأعلى للجمهورية، والاستبداد الذي قامت لأجله الثورة عاد في أبشع صورة، واتضح بعد مجازر السجون 1988 التي راح ضحيتها ثلاثون ألفا، وصولا إلى قمع الحراك الكبير المطالب بالحرية عام 2009 وما زال، وفي نفس الوقت فإن كيسنجر يشكك كثيرا في قدرات العالم على محاصرة الانتشار للسلاح النووي بما فيها قدرة الاتفاقية مع إيران على التطبيق الفعلي أو الصمود، وعندها فإنه لا يمكن في حال امتلاك إيران للسلاح النووي مقاومة الرغبة الكاملة لامتلاك هذا النوع من السلاح في الدول الكبرى في المنطقة لأسباب جيواستراتيجية، وستصبح منطقية وطبيعية كمطلب بعد أن قدمت واشنطن لطهران خدمة إسقاط طالبان وصدام ونظامه على جانبي الحدود، لكن الحديث الآن عن موقف أميركا والغرب من استمرار هذا الاتفاق الذي لم يعد خافيا التمسك الإيراني به ووصف خامنئي بأنه من ضمن الصراع الديني الخالد، وهو صراع ليس التفاوض فيه إلا أحد صيغ القتال، حيث كان توقيع الاتفاق قبل التغيير الاستراتيجي الذي بني سابقا على تقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، خاصة مع فتح القوانين والآبار للتنقيب عن النفط بأميركا، وهذا ما أسماه البيت الأبيض الحالي (كارثة) في وصف الاتفاق، وصرح الرئيس الفرنسي بأنه لابد من مراجعته، خاصة مع النفوذ الإيراني في سورية الذي وصل إلى التصنيع العسكري داخل أراضي سورية، وكتب كيسنجر أن إيران أقرت بحيازة سبعة أطنان من اليورانيوم المخصب تخصيبا متدنيا، ومع أجهزة الطرد المركزي التي تملكها فهي في خلال أشهر تستطيع تصنيع كمية كافية لصنع سبع قنابل من حجم قنابل هيروشيما.
ويمكن رصد مستقبل الموقف الأميركي من إيران تحت مظلة الرغبة الأميركية في تحطيم الحارس الجديد لروسيا، والثأر منه بأسباب كثيرة تتجاوز نوازع الهيمنة الاستعمارية إلى تاريخ قريب يمتد من اقتحام السفارة الأميركية في طهران 1981، وتفجير السفارة الأميركية في بيروت عام 1983، وصولا إلى الثأر لجنودهم الذين سقطوا في العراق عام 2003 حتى الانسحاب الأميركي عام 2011، لأنه لا يمكن تفسير عدد القتلى الكبير بالمقاومة البعثية والوطنية فقط، وما ورد في تقرير اللجنة الخاصة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر قرر أن نشطاء من القاعدة تحركوا من إيران.
وما يمكن فهمه من خلال المقال الذي كتبه كيسنجر البالغ من العمر (94 عاما) بعد أن استقبله ترمب، ونشره على موقع «كاب أكس» التابع لمركز دراسات السياسة البريطاني في أغسطس الماضي بأن الكيان الذي سيرث داعش، ويحل في أنقاضها هو امبراطورية إيرانية متطرفة قد تمتد من طهران إلى بيروت، ومع العداء الذي (أظهرته) داعش لإيران والعكس، فإن المثل التاريخي القائل إن عدو عدوي صديقي لم يعد صالحاً في الشرق الأوسط المعاصر، فإن عدو عدوي قد يكون عدوي أيضا، وإن هذا هو التحدي الأكبر لأميركا، كما صرح بأن قوى خارجية - لم يسمها -ستطيح بالوجود الأميركي في الشرق الأوسط، ويمكن تفسير ذلك بمستقبل الصين ومحاولات روسيا التغلغل في المنطقة، وهذا يجعل الموقف الأميركي في حالة نشطة لإخضاع إيران التي لم تقطع الطريق على أعدائها بالوصول إلى دولة رشد حديثة تفرق بين كونها دولة أو قضية بواقعية سياسية تبدأ بالسلام مع الداخل والجيران، لكن الحاكم الحقيقي خامنئي يردد في كل مناسبة قبل وبعد الاتفاق النووي أنه ليس أمامهم أي خيار غير مواصلة القتال، وجعلها فكرة طاغية، والجهاد لا نهائي، لكن هذا التهديد لا يدعمه الواقع كثيرا في بلد مثخن ساسته بالكلمات الجوفاء.
في حقيقة مرحلة جديدة مختلفة تذكرنا بالتغير التدريجي للعقوبات وللموقف الأميركي ضد صدام لمدة عشر سنين من 1993 إلى حرب نهائية اجتثت النظام في 2003، وردة فعل طهران على المرحلة الجديدة بعبارات الاستخفاف في الوقت الذي لا تملك فيه طائرة مقاتلة واحدة من جيل التقنية الثاني، فضلا عن الأول مع ملكية صاروخية معتبرة في عالم الجيل الثالث فحسب، ويبقى أن التأزيم والأحداث العسكرية والمعارك الكبرى تواجدت في التاريخ الأميركي بقوة لحساب الرؤساء الجمهوريين، وأن ظاهرة الصوت العالي الذي تصدره إيران ليس إلا الخرافة الكلامية، والتي ستجر وبالا جديدا على نفسها وعلى المنطقة.