لم يجد المؤرخ أرنولد مناصا من إدانة بلاده على تقديم وعد بلفور للحركة الصهيونية، معلنا كإنجليزي أنه يشعر بالخجل على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك بلاده في الإقدام على هذه الفعلة المنكرة

مضى قرن كامل من الزمن على صدور وعد أو «تصريح» بلفور الذي سبقته ومهدت له رزمة وعود أصدرها بعض رجال السياسة في الغرب. وكان أولهم نابليون بونابرت أول غاز للشرق في العصر الحديث؛ وخطاب دون إيلونبرج الناطق باسم حكومة القيصر إلى تيودور هرتزل؛ ورسالة فون بليفيه وزير الداخلية الروسي إلى هرتزل؛ ومذكرة الوزير البريطاني هربرت صموئيل في سنة 1908 التي اقترح فيها تأسيس دولة يهودية في فلسطين تحت إشراف بريطانيا، شارحا الفوائد الاستعمارية التي ستجنيها بريطانيا من قيام هذه الدولة في قلب العالم العربي والقريبة من قناة السويس.
نشر نص تصريح بلفور على شكل رسالة وجهها اللورد آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى اللورد إدموند روتشيلد زعيم الصهاينة من اليهود البريطانيين بتاريخ 2 /‏11 /‏1917. وتضمن نصها التالي: «عزيزي اللورد روتشيلد.. يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرّته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. أكون ممتنًا لكم لو أبلغتم هذا التصريح إلى الاتحاد الفيدرالي الصهيوني. إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علماً بهذا التصريح».
ولإيضاح درجة خطورة هذا التصريح قال الكاتب والصحفي البريطاني دايفيد هيرست في كتابه الشهير «البندقية وغصن الزيتون»: «لقد جاء وعد بلفور نتيجة لاتفاقية سايكس ـ بيكو، إلا أن أهميته تفوق أهمية هذه الاتفاقية كثيراً. بل من الصعب جداً اعتبار أن أي وثيقة غيرت مجرى التاريخ تغييراً عشوائيا مثلما فعلت هذه الوثيقة. فالصراع العربي ـ الإسرائيلي هو في العالم المعاصر المشكلة الأولى التي يحتمل أن تفجر يوم القيامة النووي. وإذا حصل ذلك فإن من يبقى على قيد الحياة من المؤرخين لاشك سيسجل أن المشكلة كلها ابتدأت برسالة مختصرة، بريئة المظهر لا تزيد على 117 كلمة بالإنجليزية، وجهها آرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني إلى اللورد روتشيلد في الثاني من نوفمبر1917».
ولم يجد المؤرخ الكبير أرنولد توينبي مناصا من إدانة بلاده على تقديم وعد بلفور للحركة الصهيونية، معلنا أنه كإنجليزي يشعر بالخجل والندم الشديدين على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك حكومة بلاده في الإقدام على هذه الفعلة المنكرة.
لكن وحسب وثائق سرية نشرتها وزارة الخارجية البريطانية في عام 1952، ورد في مذكرة وضعها بلفور عام 1917: «ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أن اللجنة الأميركية تحاول استقصاءها. إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية. وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيدة أم سيئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد وفي الحاجات الحالية وفي آمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمئة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة. وإذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية في العالم فينبغي أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود. ولذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التي تخصّها بشكل طبيعي، سواء أكان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالاً أم عن طريق عقد معاهدة مع سورية الواقعة تحت الانتداب».
كما أوضح بلفور في كتابه العقيدة والإنسانية (Theism and Humanity) أن «الله منـــح اليهـــود وعداً بالعودة إلى أرض الميعاد، وأن هذه العودة هي شرط مسبق للعودة الثانية للمسيح. وأن هذه العودة الثانية تحمل معها خلاص الإنسانية من الشرور والمحن ليعمّ السلام والرخاء مدة ألف عام تقوم بعدها القيامة، وينتهي كل شيء كما بدأ». وعندما صاغ الوعد بمنح اليهود وطناً في فلسطين، كان يعتقد أنه بذلك يحقق إرادة الله، وأنه يوفر الشروط المُسبقة للعودة الثانية للمسيح، وأنه بالتالي، من خلال مساعدة اليهود على العودة، يؤدي وظيفة العامل على تحقيق هدف إلهي.
ورأى بلفور في حل المشكلة اليهودية ضرورة ملحة تتم تلبيتها بتقسيم عادل. في مذكرة كتبها في أغسطس 1919 أكد على أن «الصهيونية، سواء كانت محقة أو غير محقة، سيئة أو جيدة، فإنها ترضع من تراث أجيال، من حاجات الحاضر وآمال المستقبل». لهذا فإنه يرى أن تخصيص جزء من الأراضي العربية التي احتلت من قبلهم للشعب اليهودي كأمر عادل.
وهنا لا بد من استحضار إحدى أشهر مسرحيات الكاتب الإنجليزي وليام شكسبير، وهي مسرحية»تاجر البندقية»، وتعديلها قليلا ليلعب بلفور دور المرابي»شايلوك«الذي أراد أن يقطع رطلا من لحم التاجر»انطونيو» ذي القلب الطيب والكريم، الذي جسد العرب والفلسطينيون على نحو خاص دوره المأساوي. بل يتفوق بلفور على شايلوك بكونه»تاجر الدول»، وصاحب وعد لم يمتلك يوماً ما وعد به، فضلاً عن أنه أعطى وعداً لمن لا يستحق.