الفرد عندما يصبح أكثر قابلية للإنتاج فسوف يدرك تماماً أن الحاجة للدولة هي التي تعطيه فرص حياة أفضل، وأن قوة الدولة هي انعكاس لقوة السلطات
المكون التاريخي لبناء الدول والجماعات التقليدية كان يقوم لفترات طويلة من التاريخ على مبادئ، منها التمييز العرقي والثقافي بين الجماعات، وكانت بعض الجماعات تشكل تلقائياً وحدتها بناء على الشروط التي تفرضها عدة معطيات، أهمها الحاجة إلى الأمن وموارد الحياة.
انعكس ذلك بظهور التمييز القبلي، فكان الفخر الذي ظهر في الشعر أحد أشكال إثبات الذات وتحريك الجماعة وتمييز وجودها، وكانت هناك جماعات أو قبائل عرفت مثلاً بقطع الطريق بحثاً عن موارد الحياة، وهناك جماعات عرفت بتجارة النساء، والعكس من ذلك، فهناك جماعات عرفت بأخلاقياتها وتراحمها، والذي كان بدوره أحد القوانين التقليدية للحفاظ على أمن الجماعة، واتصفت بعضها بالفقر أو الثراء أو الترحال أو التواجد في الحواضر المستقرة، والتي كانت تفرض بدورها شروطاً مختلفة على طبيعة الحياة، وكل ذلك تحرك بشكل أساسي بناء على الموارد، ثم ردة فعل الجماعة على معطياتها الوجودية، فالحضارات المتقدمة كانت تستوطن بجانب الأنهار، وهو
ما تغير في العصر الحديث، حيث إن النفط صار وسيلة للمدنية المتقدمة، بل أصبحت المعرفة موردا ووسيلة للتقدم حتى في بعض البلدان ذات الموارد المحدودة، وهذا التغيير في شكل الموارد فرض بدوره الحاجة لإعادة تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة، أو إعادة تعريف العقد الاجتماعي.
لقد انعكس ذلك التمييز القبلي على الصعيد الديني أو المذهبي لنفس الأسباب القبلية، فالجماعة تتمسك في غالبيتها بمذهب القبيلة لأسباب عصبية تتعلق بالموالاة للجماعة التي تقدم الحماية والأمن لأفرادها، وقد تنقلب على المذهب إذا حدث تغيير استراتيجي في تكوين الجماعة. وقد كان هذا التمييز ضرورياً في المراحل التقليدية لتاريخ الدول والقبائل والجماعات، حتى في الدول القديمة، والتي كانت تقوم بالحكم على أساس قبلي، حيث إنه كان وسيلة لحفظ الأمن وضبط الأخلاقيات، كما أن ظهور أزمة التطليق لعدم تكافؤ النسب في هذه الأيام وما يصاحبها من حشد قبلي لبعض الأفراد ما زال ينطلق من بقايا النظام التقليدي، وقد تراجع أمام صعود الدولة الحديثة وقيمها المستحدثة والقائمة على المواطنة وتساوي الجميع في الحقوق والواجبات أمام القانون، وامتلاك الجميع فرص التعلم والعمل دون تمييز، وقد ظهرت الدولة الحديثة بشكل أبرز كمصدر وحيد للسلطة الأمنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، ولذلك نجد أن قوة الدولة تقاس بقوة احتكارها لتلك السلطات دون أن يكون هناك نفوذ يتجاوز منظومتها القانونية والتشريعية إلا إذا كانت مطالب شعبية فرضت متطلباتها، ولكن من خلال نفس المنظومة وبشرط الحفاظ على هيبتها، وهو ما يجعلنا بحاجة إلى مزيد من العناية في تنفيذ التشريعات التي تنظم علاقة الجماعة بالدولة، مثل تجريم التمييز العنصري والمناطقي والمذهبي، وهو ما يجب أن يتزامن مع تطور الوعي الثقافي والاجتماعي للجماعات، لأن تطور القوانين في كافة المجتمعات إما أن يتزامن مع تقدم الوعي أو تستبقه الحكومة المتطلعة إلى المستقبل، والتي قد تنجح في ذلك بحسب أدائها.
تظل قضية إشغال المجتمع بالتنمية والعلم هي أفضل الحلول التي تزيد من قوة الدولة، حيث إن الفرد عندما يصبح أكثر قابلية للإنتاج فسوف يدرك تماماً أن الحاجة إلى الدولة هي التي تعطيه فرص حياة أفضل، وأن قوة الدولة هي انعكاس لقوة السلطات.