بدأت بلادنا السير على طريق التحولات التي كانت تعد في المستحيلات، فالمتابع لاتجاهات الرأي بعد القرارات الأخيرة، يدرك أن الإنسان السعودي يراجع وعيه الثقافي والتاريخي بتجرد
مصطلح «الانسداد التاريخي»، واحد من المصطلحات التي جعلتُها دالة على مفهومي الخاص دون اهتمام بالمفهوم العلمي الدقيق، وكنت أردده في حواراتي الخاصة مع الأصدقاء الأقربين لأدلل به على عدم وجود أي اختلاف كمي أو نوعي بين حالنا قبل عقود، وحالنا الآن، وأحتج لذلك بأن بعض مقالات الرأي المطالبة بالتغيير، والمنشورة قبل 40 أو 30 عاماً، صالحة للنشر الآن دون أي تعديلات، وأخص منها المقالات المطالبة بإيجاد تغيير اجتماعي يساير النسق الإنساني العام، وضمنها المقالات التي تتناول قضايا المرأة.
أجزم أن بلادنا الآن تتجاوز حالة الانسداد التاريخي بيسر وسلاسة غير متوقعين، وأن ما كان يُقال عن حتمية إخفاقنا في صناعة تحولات اجتماعية إيجابية لم يكن سوى وهمٍ كبير صنعته فئة ما من خلال خطاب ممنهج هدفه إطالة أمد هذا الانسداد التاريخي، تمهيداً لمغامراتٍ سياسية تؤدي إلى السلطة، ذلك أن طول أمد «الانسداد التاريخي» - كما يقول علماء الاجتماع- يحوله إلى واقع معطل لكل نهوض، ويستحيل الفكاك منه إلا بسقوط دول، وقيام دول على أنقاضها، وليس يخفى أن مكرِّسي أسباب هذا الانسداد يحلمون بدولة الخلافة التي يريدون لها أن تقوم على أنقاض عشرات الدول، وأهم دولة يتحتم سقوطها ليسهل قيام دولتهم هي المملكة العربية السعودية صانها الله وحفظها.
الواضح أن أتباع هذا الخطاب ما زالوا يحاولون تكريس وهْم إخفاق بلادنا في التحولات السريعة والجريئة التي تشهدها، وما زالوا يسعون إلى إشاعة وجود رفض شعبي واسع، والحق أنه رفض لا يوجد إلا في هاشتاقاتهم، وهم في ذلك يستغلون وسائل التواصل الاجتماعي معتمدين على ما كان لهم من تأثير لم يعد بحجمه السابق، ولكنهم يواصلون مثابرين على الرغم من انتهاء هذا الوهم بانتهاء تأثير خطابات التسطيح العقلي التي كانت سببا في قوة تأثيرهم، ويواصلون مثابرين على الرغم من انتفاء أسباب تكريس التبعية المطلقة، ويواصلون مثابرين على الرغم من أن القرارات المهمة باتت تعبر من فوق رؤوسهم دون أن يروها، بعدما كانت تفشل –مرات كثيرة- في العبور من بين أيديهم لوقوفهم ضدها، ولنا في موضوعي: قيادة المرأة للسيارة، وقانون التحرش، مثالان واضحان، إذ استطاعت كتلتهم تعطيلهما سنوات طويلة مستخدمةً مندوبيها المخلصين في مجلس الشورى، وهي الكتلة نفسها التي عطلت مشروع الوحدة الوطنية المتضمن قانون تجريم الطائفية والعنصرية بحجج واهية، لكنها حجج مفيدة حين تكشف –دون وعي منهم- عن أهداف التعطيل.
العجيب أن هؤلاء يواصلون مثابرين على الرغم من ضعف القوى الخفية الداعية إلى تعظيم شأن المفكرين بالنيابة عن الناس، وإلى طاعة معطلي العقول، لأهداف لم تعد تخفى الآن على أكثر الناس، بعد أن كانت معرفتها مقصورة على النخب الوطنية التي واجه أفرادها الإرهاب الفكري بصدور عارية عبر أربعة عقود، وخسروا مراتٍ كثيرة، إلا أن التحولات الأخيرة منحت هذه النخب الوطنية شعورا بالانتصار، يشبه شعور العدّاء الذي يأتي من الخلف فجأة، فيكون أول الواصلين إلى خط النهاية، وهو انتصار للمبادئ الوطنية في جوهره، وانتصار للأفكار، وانتصار لأسباب الاستقرار، وانتصار لعوامل النهوض والإصلاح، وليس انتصارا لأولئك الطليعيين الذين كانوا على استعداد للخسارة ألف مرة في سبيل لحظة «التنوير» (بالمفهوم السردي)؛ بمعنى أنه انتصار للوطن، لا لفئة، ولا لتيار، ولا لأشخاص.
بدأت بلادنا السير على طريق التحولات التي كانت تعد في المستحيلات، فلم ترتطم السماء بالأرض، ولم تشع الفوضى، ولم تظهر أي بوادر لانحلال كنا نُخوّف به، مما يعني سلاسة هذه التحولات، وأن ما كان يُقال رفض المجتمع لها لم يكن سوى جزء من العناصر المكونة لوهم الإخفاق.
هذه السلاسة الماثلة في التأييد الشعبي الواسع، تعني أن الإنسان السعودي البعيد عن التأثر بخطابات الأهواء السياسية المستترة بالدين أو التقاليد، يدرك أن التحول الاجتماعي سمة رافقت الحضارة الإنسانية منذ فجرها
حتى الآن، وأن التغيير واحد من السنن المسلّم بها، وأنه تجدد داعم للاستقرار؛ ولازم لبقاء الدولة واستمرار قوتها،
وهي –باختصار- سلاسة دالة على إدراك السعوديين لحاجاتهم الآتية، ووعيهم بأن تحقيقها لا يكون إلا من خلال خلق قيم جديدة، تحقق لهم حياة أفضل، وتمنحهم حريات أكبر على مستوى التعاطي المجتمعي، وتجعلهم في منأى عن أي محاولات لتزييف معرفتهم باحتياجاتهم.
المتابع لاتجاهات الرأي بعد القرارات التاريخية الأخيرة، يدرك أن الإنسان السعودي -في هذه المرحلة- يراجع وعيه الثقافي والتاريخي مراجعة شاملة ومتجردة، بها يعرف كل ما سبق تزييفه، وبها يبحث جادا عما تم تغييبه عنه، وبها يفهم واقعه، ويعرف مكانه بوصفه مواطناً ينتمي إلى وطن، وبها يعرف المعوقات الحقيقية التي تحول دون نهضته الجديدة، وهذا سبب مهم من أسباب السلاسة، فسؤال التغيير على الدوام، سؤال ثقافي في المقام الأول؛
ذلك أنه هو سؤال وعي، وسؤال استقلال فكري، وسؤال انفكاك من أغلال الوهم، وهي الإيجابيات التي يلحظها
أي متابع للرأي العام في بلادنا، وبها نطمئن إلى إقبالنا على تحولاتنا التاريخية بسلام آمنين.