شكَّل انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك منظومة الدول الاشتراكية، إعادة تشكيل للنظام الدولي الذي كان مستقراً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على عالم ثنائي القطبية. أعقب ذلك الانهيار تفكك دول من داخل هذه المنظومة وخارجها، ونشوء دول جديدة بفعل تحلل الحدود، وبروز قضايا جديدة على مستوى السياسة العالمية مرتبطة بالهوية؛ كالعرق، والدين، والثقافة.
ذلك أفرز نزاعات عرقية طاحنة في مناطق متفرقة من العالم، كانت سمتها الأساسية دور الهويات داخلها وشعورها بضرورة إيجاد دور لها في السياسة العالمية كفاعل مستقل. لم تستطع المقاربات التقليدية في العلاقات الدولية التعامل مع تلك القضايا بكفاءة، مما دفع إلى الوجود النظرية البنائية في العلاقات الدولية لتقدم مقاربات دفعت هذه القضايا إلى الواجهة، وجعلت منها محور الاهتمام على المستوى البحثي والسياسي.
ركزت المقاربات البنائية على تأثير الأفكار، في حين تركز المقاربات الواقعية والليبرالية على تأثير عناصر القوة المادية. إذ بدلا من النظر إلى الدولة كمعطى مسبق والافتراض أنها تعمل من أجل بقائها بالسعي للحصول على القوة وفقا للواقعيين، يرى البنائيون أن المصلحة والهوية تتفاعل عبر عمليات اجتماعية (تاريخية). لذلك أولى البنائيون أهمية كبيرة للخطاب السائد في المجتمع، لأن الخطاب يعكس ويشكل في الوقت ذاته المعتقدات والمصالح، ويؤسس أيضا لسلوكيات تحظى بالقبول. فالبنائية اهتمت أساسا بمصدر التغير أو التحول.
إن بروز قضايا الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، التي تكمن قوتها الأساسية في الخطاب الموجه للمجتمع في نطاقه الوطني أو الدولي، واستثمار أحد مستويات الانتماءات الدينية والثقافية المشتركة للأفراد، لخلق هوية أو إعادة تعريفها لجماعات بشرية، وجعل هذه الهوية تعرف نفسها بتناقضها مع الآخر القريب قبل البعيد، ومن ثم توظيف هذه الهوية في الصراع مع الآخر عبر ادعاءات الدفاع عن «الدين» والمقدسات ومصالح «الأمة» التي تتعرض للتهديد. وهو ما أعطى هذه التنظيمات فاعلية داخل نظام دولي لم يستقر بعد.
إن قوة هذا الخطاب في استثماره لعناصر خاملة سياسيا في مكونات الهوية، وإبرازها وجعلها تحتل الواجهة لكسب شرعية مجتمعية تتيح لهذه التنظيمات تأسيس سلطة فاعلة تتمحور حول مقاومة مفترضة ودونكشيوتية لهيمنة القوى العظمى أو وكلائها؛ فقد برر بن لادن اعتداءات 11 سبتمبر بالإذلال الذي تعرض له العرب والمسلمون على أيدي الغرب. كما أن أحد ادعاءات هذه التنظيمات هو التصدي للاستلاب الثقافي تجاه الغرب تحت شعار وهمي هو مقاومة التغريب، والحفاظ على الهوية والخصوصية الدينية والثقافية، في عالم أصبح يميل لتبني قيم ومعايير موحدة.
إن المقاربات التقليدية العقلانية التي تفسر القوة من خلال عناصرها المادية، ومن خلال تركيزها على الدول كفاعل ليس لديها إلا القليل لتقوله عن الجهات الفاعلة من غير الدول كالمنظمات الإرهابية. هذا ما اعترف به الواقعيون البنيويون أمثال جون ميرشماير. كما أنها باستنادها إلى نموذج الرجل العقلاني الذي يسعى لتحقيق مصالحه لا يمكنها أن تفسر ظاهرة «الانتحاريين» الذين تستخدمهم هذه التنظيمات على نطاق واسع. وبرغم أن التحليل البنائي لا يستبعد متغير القوة الذي ركزت عليه المقاربات العقلانية، إلا أن البنائية ترتكز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض، لتخلق تعريف الفاعلين لأنفسهم وللآخر كجزء من تعريف أنفسهم.
إن تفسير الظاهرة الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط يحتاج لدراسات معمقة في الهويات التي تشكل هذه المنطقة والأفكار والخطاب السائد ومصادره، ومنابع القوة التي يستند لها، وقد وفرت البنائية الأرضية النظرية لهكذا دراسات. فقبل أي علاج حقيقي نحتاج لفهم عميق لكيفية تشكل الظاهرة.