ما أحسن أن يقرأ الطلاب ما كتبه موحِّد بلادهم بيده، ليعلموا ما لاقاه الملك ورجاله من عناء وتعب في سبيل إسعادهم، وليعيش أبناء هذا الوطن آمنين مطمئنين

كتابة التاريخ والأحداث، وتحليل مجرياتهما وفق مرئيات كاتبه وتصوراته واجتهاده، أمرٌ واقعٌ وغير مستغرب، صحيح أن كاتب التاريخ يحاول أن ينأى بعاطفته وميوله عند الكتابة والتحليل والاستنباط، وقد لا يتمكن من ذلك أحيانا، لكن الذي أجزم به، أن كتاب معالي الشيخ عبدالعزيز التويجري رحمه الله (لسراة الليل هتف الصباح) كتاب موضوعي، لا مجال فيه للعاطفة والهوى، ولا نظير له قط في الكتب المؤلفة في موضوعه (وهو: تاريخ بلادنا المملكة العربية السعودية) من حيث جودته وعمقه وصدقه وغزارة معلوماته، وكنت قرأت الكتاب منذ سنوات طويلة، ولا زلت أطلع عليه كلما احتجت إلى معلومة، أو وثيقة.
ولو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذا الكتاب أو بعض ما جاء فيه من وثائق وتعليقات ضمن مقررات التعليم، كيف لا وهو سيرة ومسيرة، خطته أنامل الملك عبدالعزيز رحمه الله، وما أحسن أن يقرأ الطلاب ما كتبه موحِّد بلادهم بيده، ليعلموا ما لاقاه الملك ورجاله من عناء وتعب في سبيل إسعادهم، فقد عاش ورجاله في البراري والأودية والشعاب في الحر والبرد والخوف مشيا على جمالهم تارة، وعلى أقدامهم تارات، ليعيش أبناء هذا الوطن في القصور والفلل تحت المكيفات آمنين مطمئنين، ويدرسوا في أرقى الجامعات، وهذا من فضل الله ثم جهود الملك المؤسس ورجاله، وهذا الكتاب الاستثنائي يتميز بميزات كثيرة منها:
1 - أنه يعطي قارئه صورة كاشفةً لحال بلادنا قبل توحيدها، وهذا يجعله يستشعر النعمة العظيمة على هذه البلاد وأهلها، بأن هيأ الله لها الملك عبدالعزيز رحمه الله ورجاله، ومنحه صفات قلَّ أن تجتمع في حاكم، فجمع الله به الناس بعد الفُرقة، وألَّفَ به بعد العداوة، وأغنى به بعد العَيلة، وأمَّن به بعد الخوف.
2 - أنه يتضمن وثائق كتبها الملك عبدالعزيز رحمه الله لا تتأثر بتحليلات مؤرخٍ ولا عواطفه، وهي تصف الواقع والمواقع وتفاصيل ما جرى، فيشعر قارئها أنه يعيش مع الملك عبد العزيز ورجاله، وكأنهم ما ساروا مسيرا، ولا قطعوا واديا إلا هو معهم.
3 - عمق التعليقات على وثائق الكتاب، لاسيما والمؤلف يبدي تساؤلات تنشِّط الذهن للتفكير والاستنباط، ويضع تلك التساؤلات أمام القارئ، ويجعله يستنبط فرائد الفوائد منها، ولا يُمارس الوصاية عليه، ولا على فكره واستنتاجاته، ولا يقدم أحكاما جاهزة، يفعل ذلك بأدبٍ جم، وتواضعٍ عجيب، وثقافة عالية.
4 - عفة لسان الشيخ التويجري رحمه الله، فهو لم يقلل من قيمة أحد أخطأ نتيجة الظروف ومجريات الأحداث، أو عدم استشراف المستقبل، ولم يقلل من شأن من كان له موقف من بعض المستجدات، بل يدعو لهم ويعتذر عنهم بأنهم لم يروا لها نظيرا، ولم تكن بأرض قومهم، ولم يبْلغهم علم عنها، فلا يتنقص ولا يتشمَّت، وهذا قمة النزاهة والأدب والعقل.
5 - أن هذا الكتاب يعطي قارئه، شعورا قويا بوجوب الحفاظ على هذا المنجز الأمني، وهذه الوحدة العظيمة، وهذه الأسرة المباركة (آل سعود)، فهذا الأمن وتلك الوحدة لم يتحققان بعد توفيق الله إلا بشق الأنفس.ولعل من المناسب أن أضع أمام القارئ الكريم مقتطفات من مقدمة الشيخ التويجري للكتاب، كتبها عام 1416هـ، يقول رحمه الله:
قارئي العزيز: ما أردت بهذه اللمحات أن أضللك، بل أحترم حريتك وثقافتك وفكرك وتوجهاتك، فأنت ابن العصر وقارئه ومُجادلُه بعقلك ووعيك لمحدثاته ومُتغيراته، لم تعد حتى غرفة نومك في عزلة عن هذا العالم، يوم خطرت لي فكرة كتابة هذا الكتاب ترددتُ كثيراً وتساءلتُ: أَمِنَ الممكن أن يكتب من سيقال عنه إنه غير محايد؟ لكني وقد حاولت أن أشد بأخطمة الأحداث أو بشيء منها، وأنيخها في طريق المارين بها عبر الأجيال، اعتمدت على الله، ثم على توثيق شيء من الأحداث في مسارها مع الملك عبدالعزيز وشعبه رحمهم الله، وكان دوري في ذلك كدور حامل البريد... وحامل البريد (هكذا بثقةٍ وتواضعٍ جم يصف نفسه بحامل البريد، والحقيقة أنه سياسي ومؤرخ وأديب ورجل دولة من الطراز الأول) قد لا تشق معرفته على متسائل عنه وعن ثقافته وشيء من حياته، فهو الرجل البسيط ذو الشخصية التي لا يستطيع أن يدّعي غيرها أو يغالط فيها نفسه ويغالط الآخرين... ثقافتي اكتسبتها من تجاربي في الحياة، وبما تيسر لي قراءته من كتب، جيبي خالٍ من الشهادات...
ويقول:
لعلي فيما كتبته لم أتجاوز مجرى الأحداث والتصورات فما قصدت إلا الاعتدال وتكريم ساقيتنا الواحدة من التلوث وقذف الأحجار الثقيلة فيها لأنها ساقيتنا – نحن شعب المملكة العربية السعودية – التي ظمئنا طويلا إلى مائها العذب لذلك جاءت أوراقي لا تؤرخ لهزائم وانتصارات لمعركة هنا أو هناك، بل نرى أن من التقوا والملك عبدالعزيز على الطريق الواحدة هم منا وإلينا ولا نرى في تاريخنا الواحد منتصرا أو مهزوما ولا غالبا أو مغلوبا، إنه مبدأ خلقي متسامح استخلصناه من السيرة العظيمة للملك عبدالعزيز وحرصنا على اتباعه، هذا هو عبدالعزيز، سنقرؤه في فصول الكتاب، فآمل أن يتسع صدر القارئ لجزء هام من تاريخ الآباء والأجداد من الماضي، الذي قال عنه أحد الحكماء: من تجاهل الماضي واستهان به، فكأنما سدَّد طلقة مميتة إلى حاضره ومستقبله!!
ولا أظن أن ما ورد في الكتاب يؤذي أحدا أو يؤلمه، في عصر الجامعات والمدارس وتطور المفاهيم ونمو الوعي الاجتماعي... رحم الله مؤسس دولتنا الحديثة، فقد أسلمها لأهله وشعبه آمنة مستقرة، بعد أن بذر فيها أفضل البذور، وغرس في ترابها أفضل الأشجار، وسقاها بعرقه ودمه وكدحه، وذاد عنها الطير حتى نضجت الثمرة، بعد معاناة وجوع وظمأ وشح عليه وعلى رجاله بأبسط العيش.