صورة التحضر هذه ليست جديدة ولا غريبة على بلادنا ولا مجتمعنا، لكنها كانت مغيبة على مدار أكثر من ثلاثة عقود ونصف، بسبب أعداء الفرح ومشيعي ثقافة الموت والشك والتوجس

قبل نحو خمسين سنة كانت أعيادنا ومناسباتنا في القرى كلها أفراح، وأقصد عيدي الفطر والأضحى، والزواجات والعزايم وما إلى ذلك، كانت العرضة عنوان فرح الرجال، واللعب عنوان فرح النساء، وما زلت أتذكر (المخيلات) من النساء فوق الجدران وفوق أسطح البيوت، يتفرجن في العرضة، وكنا نحن الأطفال نتفرج في لعب النساء، وهكذا سارت الحياة، وكان الأمر كذلك في مدينة الطائف، التي انتقلت إليها مع الوالد في عام 1970، وأعتقد أن الأمر كان كذلك في باقي المدن مع اختلافات طفيفة حسب العادات والتقاليد، وما إن انقضى عقد السبعينات الميلادية من القرن الماضي، حتى بدأت حياتنا تنقلب شيئا فشيئا، ولم ينته عقد الثمانينيات الميلادية حتى انقلبت الحياة الاجتماعية بأكملها، إذ اكتمل دخولنا نفق ما سمي بالصحوة، وتم تحريم الفرح بكامله، فلا غناء ولا سينما
ولا عرضة، ولا لعب ولا... ولا..... حتى الضحك أصبح حراما!، وحل الوعظ والوعاظ في أعيادنا ومناسباتنا وتحولت إلى مآتم، وتفاقم التدين الشكلي، وبدأ الفرز بين الإسلاميين (بدون عقال، والثوب القصير، واللحية!) وبين غير الإسلاميين (لابس العقال، أو حالق اللحية، أو المسبل....!)، واستفحلت فتاوى التحريم لكل شيء تقريبا، ووجدنا من يحرم الزير والدف وصوت المرأة، ومع أن نساء المملكة معظمهن كن متحجبات الحجاب الطبيعي الشرعي المتمثل في تغطية الرأس (بالشيلة أو الشرشف!)، إلا أنه فرض عليهن غطاء الوجه واليدين وعباءة الرأس، فأصبح حتى عجائز البلد ممن تجاوزن الستين والسبعين يفعلن ذلك رغبة ورهبة!.
 ومات الفرح مظهرا ومخبرا طيلة أكثر من ثلاثة عقود مضت، ومنذ أن أقرت أو أحيي إقرار إجازة اليوم الوطني، في الذكرى الخامسة والسبعين لهذا اليوم المجيد عام 2005، والوطن يقدم رجلا ويؤخر أخرى حول الاحتفال به، واعتباره يوم عيد وطني سعيد، والأمر هنا ليس لأن الغفوة حرمت الاحتفالات كلها حتى في عيدي الفطر والأضحى فقط، ولكن لأن الغفوة كرست في حياة الناس عدم الاعتراف بمفهوم الوطن، ووجهت الأنظار نحو الأمة، وأصبح الدين هو الوطن، وبناء على هذه النظرة الأممية فإن المسلم في أي أرض الملتزم شكلا بزي الصحويين وسماتهم هو أقرب لي من شقيقي الذي يحلق لحيته أو يلبس العقال، فالإسلام هو الوطن (في مفهوم الغفوة!).
 وفي كل ذكرى ليومنا الوطني العظيم خلال السنوات العشر كان هناك من يتصيد الأخطاء التي يمارسها بعض الشباب الذين لم يجدوا متنفسا للتعبير عن مشاعرهم إلا الطرقات والأسواق والأرصفة، فيضخمها وينفخ فيها ويتخذها مدخلا إلى وضع العراقيل في سبيل الفرح بهذا اليوم الذي تحتفل به كل دول العالم !!.
في هذا العام 2017، وبفضل الله ثم بوعي القيادة، جاءت ذكرى يومنا الوطني السابع والثمانين مطرزة بالفرح مفعمة بالبهجة، عظيمة بعظمة شعب عبر عن وطنيته بحرية منضبطة بأخلاقياته وقيمه دون رقيب أو حسيب، حيث خرج الرجال والنساء من مختلف الأعمار والمستويات إلى الحدائق والملاعب والطرقات والحفلات ليعبروا عن عشقهم الواعي لوطنهم وولائهم لقيادته، ولانسجامهم مع بعضهم بعضا على اختلاف مذاهبهم وألوانهم ومناطقهم وعاداتهم وتقاليدهم، حيث غاب أعداء الفرح، وزارعو الفتنة، وعشاق الفرقة، فقدم المجتمع السعودي كله صورة من صور التحضر التي لم يكن أحد يظنها بهذه العظمة والروعة!.
 صورة التحضر هذه ليست جديدة ولا غريبة على بلادنا ولا مجتمعنا، لكنها كانت مغيبة على مدار أكثر من ثلاثة عقود ونصف، بسبب أعداء الفرح ومشيعي ثقافة الموت والشك والتوجس، ولهذا، فإن هذه الصورة الحضارية التي ظهر بها الشعب السعودي كله، تقول إن الشعب استعاد أنفاسه ونفسه وحقيقته وجوهره، لهذا عبر عن حقيقته الرائعة أجمل تعبير، فلم نسمع أو نقرأ عن تحرش أو اعتداء أو فوضى أو تطاول أو خرق لنظام أو خدش لحياء، ورأينا الجميع يهنئ الجميع في كل مكان!.
 هيئة الترفيه تشكر على ما فعلت وقدمت، لكن ما حدث في كل أرجاء الوطن كان أكبر وأضخم وأعظم من أي فعاليات أو حفلات، حضرت حرية الفرح فحضر عقل الانضباط، فخرجت المدن والقرى وامتلأت الطرقات والحدائق وتزين الناس والأماكن باللون الأخضر، وارتفعت الراية الخضراء فوق البنايات والسيارات والأشجار، وابتهج السعوديون في كل بلد يعيشون أو يتفسحون فيه خارج المملكة، وشارك وطننا أشقاؤه وأصدقاؤه من الدول، فكان عيد الوطن عيدا عالميا فعلا. واليوم الإثنين تستأنف الحياة دورتها لاستكمال مسيرة البناء والتطور، وكل لحظة وأنت سعيد عظيم يا وطن!.