الوطن شيء كبيرٌ جداً..عظيمٌ جداً..ثمين جداً..وربما لا يعرف قيمته حقاً إلا من جرب لوعة الغربة والتشرد في المنافي والبعد قسراً عن الأهل والخلان
أمضى السعوديون يوم السبت وليلة الأحد وهم يحتفلون بيومهم الوطني السعودي، مظاهر الفرح كانت بادية بشكل كبير، حتى لتبدو غريبة حد الدهشة على أولئك الذين عاشوا ردحاً من أعمارهم - مثلي- بدون أن يكون هناك تقريباً أي نوع من الاحتفاء بهذا اليوم.
هؤلاء الذين مازالوا يحاولون استيعاب أن يكون اليوم الوطني نفسه إجازة! مظاهر الفرح كانت مختلفة هذا العام كونها ترافقت مع عودة الناس والطلبة خصوصاً من إجازة طويلة، وصعود المنتخب لكأس العالم، وبداية السنة الهجربة، وتطور نوعي في مستوى الاحتفالات، مما جعل الجو متخما بالتفاؤل بالبدايات وتحقيق الأمنيات الفردية كما الجماعية.
حمى اللونين «الأبيض والأخضر» غزت كل شيء، بعض ذلك كان أمراً جميلاً، والبعض الآخر كان ربما محاولات غير موفقة. مثلاً لا يرغب معظم الناس بأكل طعام أخضر (مثل البرغر!) -إلا ملوخية فتلك استثناء جميل- ولا أعتقد أن عرض الملابس الداخلية النسائية على واجهة المحلات وقد اكتست بهذين اللونين مع وشاح عليه السيفان والنخلة وكُتب عليه: «كلنا فداء للوطن»! كان مشهداً مناسباً للاحتفال بهذه المناسبة المميزة. وهذا يجعلنا نصل إلى موضوع «تسليع اليوم الوطني».
منذ سنوات والناس في الغرب يتبرمون من تسليع مناسباتهم الدينية والاجتماعية سواء كان الحديث عن عيد المسيح عليه السلام (الكريسمس) أو عيد الفصح (الايستر) أو عيد الحب (الفالنتين)، إذ تحولت هذه المناسبات من أوقات للعائلة وللعطاء والمشاعر الإنسانية الرفيعة إلى مناسبات استهلاكية لا تكتمل إلا بحمى الشراء وصرف آلاف الدولارات على الكماليات والتباهي. اليوم بدأت أشعر بأن الأمر عينه يتكرر مع يومنا الوطني، حيث سارعت الشركات باستغلاله تجارياً إلى أقصى حد ممكن. فاصطبغت الشعارات بألوان الوطن، وقدمت العروض «الخضراء» والتي كان بعضها حتى غير حقيقي، وغيرت شركات جوالات أسماء شبكاتها، وكأنها تريد أن تلعب على المشاعر الوطنية الجياشة في هذه الفترة لتجد لنفسها مكاناً في قلب وعقل المستخدم. فكأنما وطنيته لا تتحقق إلا بشراء هذه المنتجات السعودية (إن كانت سعودية فعلاً)، أو بالتعامل مع هذه الشركات الوطنية.
كل هذا سيكون جميلاً لو كانت هذه الشركات:
1) تقوم بعملها بشكل جيد كل يوم عن طريق تقديم منتجات وخدمات عالية الجودة مرفقة بخدمة عميل (ما بعد البيع) رفيعة تجعل المرء يفخر بالمنتج السعودي والشركات المحلية
2) لو أنها تقوم بخدمة المجتمع وتطبق المسؤولية المجتمعية بشكل حقيقي كما تفعل نظيراتها في الدول المتقدمة.
مثلاً هل تستطيع شركات الاتصالات منح شريحة مجانية وفواتير مدفوعة لسيدة مسنة فقيرة تعيش وحدها، وتحتاج للتواصل مع الآخرين للطوارئ أو حتى للحصول على احتياجاتها اليومية من البقالة؟ هل من الصعب أن تتكفل شركات الأغذية بالوجبات المدرسية للطلبة الفقراء خلال العام الدراسي؟ ألا تستطيع شركات النظافة والدهانات والأثاث والإنارة وغيرها أن تتبنى تنظيف وترتيب وتحديث بضعة بيوت في الأحياء الشعبية والفقيرة بمنتجاتها الجيدة؟ الأمر نفسه ينطبق على المدارس الخاصة وشركات المواصلات وغيرها، والتي تكون غالباً موجهة لمن يملكون المال، أما من لا يملكونه فقد سقطوا عمداً من أجندتها.
ما معنى الوطنية؟ وماذا يعني أن تكون وطنياً؟ الوطنية تعني أن تدعم وطنك وتسانده. وهل هناك مساندة أعظم من تبني قضايا الفقراء والمحرومين ودعمهم بما يجعل حياتهم أسهل وأجمل؟ بحسب ويكبيديا: «الوطنية مفهومٌ أخلاقي، وأحد أوجه الإيثار لدفعها المواطنين إلى التضحية براحتهم، وربما بحياتهم، من أجل بلادهم». رسالة يجب أن تصل إلى جل شركاتنا الوطنية، أو تلك العاملة في الوطن والمستفيدة من خدماته وخيراته، ولعلها تكون في صلب عروضهم «الدائمة والمستمرة» للأيام الوطنية، فكل يوم هو يوم للوطن.
وإذا نحينا الشركات والمؤسسات جانباً، واتجهنا بالبوصلة إلى الأفراد، فإننا سنجد مشكلة مشابهة. فقد نشأ جيل يعتقد بأن الوطنية محصورة فقط في ارتداء الأخضر والرقص بالأعلام على أنغام النشيد الوطني والأغاني الوطنية الحماسية، حتى لو كان معنى ذلك الانخراط في عمل غير وطني مثل تعطيل المرور وإغلاق الشوارع، أو ما تقوم به قلة قليلة من الشباب بالتحرش بالعائلات في الأماكن العامة.
وصدقاً لا مشكلة أبداً في أن نرتدي الأخضر أو نتوشح بالأبيض أو نتمايل على الأهازيج الحماسية أو نلوح بأعلامنا السعودية، المشكلة تكمن في قصر نظرتنا للوطنية على هذه الممارسات الوقتية القصيرة والمرتبطة بيوم واحد في السنة، بينما ليس في تصرفاتنا الأخرى أي سلوك وطني.
عندما تقصر في عملك أو لا تؤديه بالجودة التي تستطيعها، أو تأخذ ما ليس لك من أموال الدولة وممتلكاتها بحجج واهية، أو «تتوسط» لتنال أنت أو شخص قريب منك منصباً أو بعثة أو مقعداً جامعياً أو وظيفة دون وجه حق، أو عندما لا تحافظ على نظافة شارعك كما تحافظ على بيتك، أو عندما تهمل دراستك (في الداخل) أو «تمطط» بعثتك في الخارج دون دواعٍ علمية حقيقية، وبالتالي تسهم في هدر موارد الدولة، أو حينما تقوم بتصرفات غير لائقة مع مستخدميك أو ضيوف بلدك وتسيء إلى سمعة بلدك، أو تتورط في نشاطات معادية لبلدك أو يمكن أن تجر عليه مشكلات سياسية أو قانونية أو اقتصادية، أو حتى حين تسيء معاملة أهلك فتتسبب في تشتت الأسرة وخلخلة بنيان المجتمع، عندما تقوم بواحدة أو أكثر من هذه الممارسات، فأنت أبعد ما تكون عن الوطنية. أما إذا كنت تقوم بهذه الممارسات وأنت ترتدي شعارات الوطن وتغني نشيده وتلوح براية التوحيد الخفاقة فأنت لست غير وطني فحسب وإنما منافق كبير كذلك!
الوطن شيء كبيرٌ جداً..عظيمٌ جداً..ثمين جداً..وربما لا يعرف قيمته حقاً إلا من جرب لوعة الغربة والتشرد في المنافي والبعد قسراً عن الأهل والخلان. والوطنية ممارسة يومية في البيت والمدرسة والشارع والعمل بل وحتى خارج حدود الوطن، الوطنية أكبر من علم وأغنية وألعاب نارية.
الوطن أنا..الوطن أنت..الوطن نحن وأرضنا وتاريخنا وحاضرنا وأيامنا الجميلة القادمة.