معظم الأحزاب المنتسبة لحركة الإخوان فكرا أو تنظيما تُصاب بالنكوص كلما اقتربت من المائدة السياسية، وإن كانت ربما أظهرت التشدد قبل ذلك في القضايا ذاتها

من بين أحد عشر مليونا من مجموع عدد سكان تونس لا يوجد سوى قرابة المائة ألف مواطن من غير المسلمين، وبعض المختصين في المجتمع التونسي يُشَكِّك في هذه النسبة أيضا، ويرى أن عدد غير المسلمين في تونس أقل من ذلك بكثير.
ذلك يعني أن زواج المسلمة بغير المسلم في تونس لم يكن من النوازل التي تفرض نفسها على المجتمع أو على القضاء والمؤسسات النسوية أو الحقوقية، بل لم تكن مطروحة كقضية رأي عام إلا في مجال المناكفة التي هي
دأب الليبراليين في كل مجتمع؛ ومع ذلك صادَق الجمعة الماضية البرلمانُ التونسي على قانون يسمح للمرأة المسلمة بالزواج من غير مسلم؛ ملغيا بذلك المنشور التنظيمي الذي صدر في عهد من يمكن وصفه بأبي العلمانية في العالم العربي الرئيس الحبيب بورقيبة عام 1393هـ.
وليس العجيب في هذا القانون كونه صادراً دون دواع اجتماعية أو ثقافية وحسب، بل الأعجب من ذلك أن يحظى فوراً بتأييد نواب حزب النهضة الذي يصف نفسه بأنه حزب مدني ذو مرجعية إسلامية، والمحسوب ضمن تيار الإخوان المسلمين وأحد مكونات الاتحاد الدولي لهم.
بل إن إقرار النهضة لهذا القانون سبق التصويت عليه رسمياً بأسابيع حين أعلن المحامي عبدالفتاح مورو أن
زواج المسلمة من غير المسلم لا يعدو كونه حرية شخصية.
وأي اعتذار لعمل النهضة هذا بالضرورة أو السياسة الشرعية أو درء المفاسد أو غيرها من الأعذار ليس مغنياً أبدا في التماس العذر لها من منظور ديني، فنواب النهضة يُعْتبرون بعد انشقاق حزب نداء تونس الأغلبيةَ في البرلمان واعتراضهم على أي قانون كفيل بتعطيله.
السؤال الأهم هنا: ما الذي يدعو تونس إلى الدعوة إلى هذا القانون في هذا الوقت مع أن الدولة كانت وما زالت قادرة على المضي في نهجها العلماني دون الحاجة إلى تنظيم ليس مطلوبا شعبياً، بل صرحت بعض النساء العلمانيات في تونس بأنه ليس أولوية للمرأة التونسية، وقد صَدَقَت، فحتى بالمعايير العلمانية فالمرأة التونسية ليست في حاجة لهذا القرار، فعدد من يُطلبن للزواج من غير مسلمين قليل جداً بل نادر في بلد تعاني فيه المرأة أساساً من نسبة مرتفعة جداً في العنوسة، إذ بلغت حسب تقرير الديوان الوطني للأسرة والعمران في تونس 60 % من العازبات، أي أن عدد العوانس يفوق بخمسة وعشرين ضعفاً عدد غير المسلمين التونسيين، رجالاً ونساء كباراً وأطفالاً، وبذلك من المستحيل أن يكون هذا القانون حتى من وجهة النظر العلمانية حلاً لأي مشكلة تعاني منها المرأة التونسية.
والسؤال: لماذا لم يطرح هذا القانون في زمن لم يكن فيه للإسلاميين أي وجود في البرلمان، وذلك طيلة حكم الرئيسين بو رقيبة وبن علي اللذين كانت تونس في زمنهما الأنموذج العلماني الأشهر في العالم الإسلامي؟
الجواب في تصوري: أن هذا القانون ليس مراداً لذاته، بل هو مراد لغايات أخر ومنها القضاء على حركة النهضة كحزب إسلامي من وِجدان الشعب التونسي، بحيث لا يعود لها في النظرة الشعبية أي مكانة فوق كونها حزبا كأي حزب علماني سابق ولاحق، وذلك لإقرارها قانونا مخالفا لإجماع المسلمين، إضافة إلى أن الحزب صادَق في الوقت ذاته على قانون يسقط المطالبة عن مسؤولين من العهد السابق متهمين بقضايا فساد، وسوف يتلو ذلك قرارات أخر كتشريع مساواة المرأة للرجل في الميراث.
ومن ثَمَّ سوف تَسْتَغِل المنظمات الحقوقية النسوية في الأمم المتحدة وخارجها والنشطاء والناشطات من التوجهات والأحزاب الليبرالية في الدول الإسلامية هذا الإقرار النهضوي «نسبة لحزب النهضة» في الضغط على الدول الإسلامية كي تحذو حذو تونس، التي اكتشف الإسلاميون فيها بتَقَدُّمِيَتِّهم المزعومة سماحة الإسلام ويسره، واستطاعوا بأريحيتهم وفهمهم لمقاصد الشريعة تجاوز النصوص والإجماعات وإباحة المحرمات.
والمتابع يرى أن ظاهرة النكوص عن الفقه الإسلامي واستحداث أحكام جديدة لا تعبأ بأي نوع من الأدلة الشرعية حتى لو كانت قطعية الثبوت والدلالة أو إجماعية ليست خاصة بحزب النهضة التونسي، بل يمكن القول: إن معظم الأحزاب المنتسبة لحركة الإخوان فكراً أو تنظيماً تُصاب بهذا النكوص كلما اقتربت من المائدة السياسية، وإن كانت ربما أظهرت التشدد قبل ذلك في القضايا ذاتها، وهم يتأولون ذلك مقاصدياً؛ ويظنون أن مجاراة العالَم الذي لا يطيق سماع صوت للمطالبة بالشريعة هي الأجدى للوصول إلى سُدَّة اتخاذ القرار، ومن ثَمَّ تبدأ عملية الإصلاح من أعلى الهرم، ويرون أن التأول في أحكام الشريعة من أجل هذا المقصد من باب الأخذ بأخف الضررين لتحقيق أعم المصلحتين وأرجحهما.
ولكن ما ذهبوا إليه في ذاته مفسدة عظمى ولا يمكن أن تكون طريقاً لمصلحة بعدها، فهي استباحة صريحة لما حرم الله تعالى؛ وإذا كان الله تعالى وصف الحاكم بغير ما أنزل الله بالكفر تارة وبالظلم تارة وبالفسق تارة ثالثة، فلا شك أن استحلال ما حرم الله وإقرار الناس عليه واتخاذه دينا هو من أعظم درجات المنكر المنهي عنها، وأي مصلحة تتحقق من خلاله هي مصلحة ملغاة وموهومة أيضا، أما إلغاؤها فظاهر من تضافر الآيات والأحاديث على أن تحليل الحرام من أعظم المنكرات، كما جاء في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)، فقال عليه الصلاة والسلام «قال أما إنهم
لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه».
وأما كونها موهومة فلمعارضتها لمفسدة أرجح وجوداً وهي استبدال أحكام الدين بما يخالفها وظهورها دينا لم يأذن به الله، فإن هذه الأحكام حين تظهر من حزب أصيل في العلمانية معاد للدين ظاهرا وباطناً لا يعبأ الناس بها ويبقى إيمانهم بظاهر الكتاب وبتفاسير أهل العلم لها؛ أما حين يتبنى هذا التبديل حزب يُعَرِّف نفسه بكونه ذا مرجعية إسلامية ويصف قادتها بأنهم شيوخ فإن الأمر سيخرج مخرج الفتوى، وربما ظنه الناس دينا، ومع مر الأيام يستقر عندهم أنه كذلك، كما حصل في كثير من بدع الأقوال والأفعال التي يظنها الناس اليوم من أصل الإسلام وهي من خرافات الأولين والآخرين.
ولقد كان هناك توجه دولي لاحظه من تابعوا بتجرد أحداث الثورات العربية لما يمكن أن نطلق عليه «أخونة الإسلام»، أي رسم الإسلام في العالم الاسلامي وفق فتاوى التنازل والانتكاس، والتي لا نغفل عن كونها مطروقة عند التيارات الليبروإسلامية قبل أن يعتنقها بعض شيوخ الإخوان، لكن إنزالها إلى حكم المجتمع من لدن حزب ديني سيجعل لها من القدرة على تأصيل الانحراف عن أحكام الشريعة بل وشرعنته ما ليس لأي حزب ليبرالي لو أراد تطبيقها.