يجب نقد النخبة الثقافية بوصفها تتعامل بشيء من الفوقية والوصاية على أفكار الناس، وتضع لها خصوصية لا تريد مشاركة غيرها بها؛ لكن في المقابل يجب نقد «النخبة» الجماهيرية

ربما سوف يتم تصنيف هذا المقال بوصفه خطابا نخبويا من قبل بعض المثقفين الذين صار نقد النخوبية بالنسبة
لهم موضة ثقافية، ولا ضير في ذلك لو كان هذا النقد يصب بالفعل في نقد الناقد، بحيث يكشف عن إشكالية الخلل في رؤية هؤلاء النخبة تجاه أنفسهم المتعاظمة والمحقرة للحياة العادية للناس وتتفيهها، لكن الإشكالية التي أراها أن نقد النخبوية يصب في تعزيز قيمة الجماهيرية، وهذا برأيي يعيد مفهوم هيمنة العام على الخاص، أو هيمنة الجمهور على الفرد، وسحق كل فردية ورؤى خاصة يمكن أن تتحقق من حالة نقد النخوبية والجماهيرية على حد سواء.
المثقف النخبوي يرى الناس من برجه العاجي، ويسمح لنفسه بالحديث عنهم. أما المثقف الجماهيري فهو المثقف الذي يحاول أن يتكلم باسم الجماهير وتحقيق أحلامها وتطلعاتها، وفي كلتا الحالتين ينصب المثقف نفسه بوصفه الحامي حمى الشعب والنائب عنهم بتعزيز مكانته أكثر رغم ادعائه أنه يمثل الصورة الجماهيرية، وهو وهم ثقافي ينصب المثقف نفسه فيه.
جاءت فكرة نقد النخبوية من المثقف الجماهيري من قِبَل التيارات اليسارية ضدا من المثقفين البرجوازيين في الغرب، لكن مع مرور السنوات يتبين أن النخبوية مازالت داخل حتى المثقف الجماهيري، والقضية هي فقط زيادة في الشهرة الجماهيرية دون أن يحقق أي شيء حقيقي على أرض الواقع. ينافسه على تلك الشعبية الجماهيرية عدد من النجوم الآخرين كلاعبي الكرة أو الفنانين أو الممثلين أو الإعلاميين أو حتى الهزليين. كتب مرة الروائي ميلان كونديرا عن مصطلح النخبوية أو النخبوي أنها لم تظهر في فرنسا إلا في أواخر الستينات، معتبراً أنها «المرة الأولى في التاريخ التي تلقي فيها اللغة ذاتها على مفهوم النخبة إضاءة من السلبية إن لم تكن من الاحتقار».
في اللحظة ذاتها بدأت الدعاية الرسمية في البلدان الشيوعية بالتنديد بالنخبوية والنخبوييين. لم تكن تقصد بهاتين الكلمتين رؤساء الشركات أو مشاهير الرياضيين والسياسيين، بل كانت تقصد حصراً النخبة المثقفة، أي الفلاسفة والكتاب والمؤرخين ورجال السينما والمسرح. متصورا أن ذلك يدفع إلى اعتقاد عام بأن النخبة المثقفة تتخلى عن مكانها لنخب أخرى إعلامية وعسكرية وفنية أو غيرها لا يمكن وصفها بأنها نخبوية لأنها أقرب إلى الجماهير (فن الرواية ص: 143)، وفي تصوري أن هذا ما هو حاصل حالياً في تراجع «النخبة» الثقافية لصالح «نخبة» جماهيرية، سواء كانت سياسية أو إعلامية أو دينية أو كوميدية أو أياً كان وصفها تشترك في أنها تمثل الجماهير، وتتحدث باسمهم، وتعبر عن أحلامهم وعواطفهم وتصوراتهم عن الحياة اليومية، والأمر في نظري ليس صحيحاً بتلك الدرجة من الادعاء، إذ إن الأمر لا يعدو استبدال نخبة محدودة بإطارها الثقافي إلى نخبة متسعة بجماهيريتها، والشهرة هي الهدف من هذا الاتساع لمزيد من الرأسمال الرمزي أو الرأسمال المادي أو الرأسمال الشعبي.
سأعطي مثالا بسيطاً على هذا التنظير: يحرص بعض المشاهير على أن يذهبوا مثلاً إلى الحد الجنوبي للتصوير
مع الجنود المقاتلين هناك. تلك الزيارة لا تتعدى يوما يصور فيها الشهير بلباس العسكرية، ثم يعود إلى بيته وقد زادت شعبيته الجماهيرية من خلال الصورة فقط دون تقديم دعم حقيقي لأولئك الجنود. الهدف هنا الصورة الجماهيرية لا أكثر.
مثال آخر: يحرص بعض المشاهير على التصوير مع الفقراء أو المرضى الذين يدعون أنهم ساعدوهم. الهدف هنا الصورة (لا أتحدث عن النوايا، فالأعمال بالنيات، وخير العمل المخلص ما خفي عن الناس وليس ما أُظهِر).
لماذا هذا الحرص على الصورة ونشرها على أوسع نطاق؟ الخديعة الجماهيرية في رأيي تطل برأسها في هذا السياق. «النخبة» الجماهيرية والشهرة عامل من عوامل اللعب والبروباغندا الإعلامية، ومع زيادة تلك الشهرة واتساعها يصبح المدخول المادي أعلى حتى إن بعض أولئك المشاهير تحول مع اتساع الشهرة من النجوم الدينيين إلى عروض إعلانية ذات مدخول مادي لبعض المؤسسات التجارية.
لا يمكن أن أعمم على كل المشاهير الذين تغص بهم السوشل ميديا وأعطتهم شهرة كبيرة وربما غير مبررة مطلقا إلا بالتهريج أحياناً، لكن عدداً من المشاهير يمارسون بالفعل الخديعة الجماهيرية من خلال البحث عما يريده الجمهور على طريقة البرامج الفنية القديمة (ما يطلبه المستمعون)، أو تبرير الفشل الفني في بعض الأفلام المصرية بادعاء (الجمهور عاوز كده). وربما تخلى الشهير عن بعض قناعاته من أجل كسب أكبر قدر من الجماهيرية، بحيث يحقق ما يدغدغ عواطف الناس رغم أن كثيرا من هؤلاء الناس تجاوزا بعض تلك الأساليب، وكشفوها مع مرور الوقت، وكشفوا الخديعة التي مارسها بعض المشاهير وفضحوا تناقضاتهم الاجتماعية والدينية والمادية.
لستُ بالتأكيد أدعو إلى إعادة النخبة الثقافية إلى الواجهة من جديد، بل يجب نقد تلك النخبة بوصفها تتعامل بشيء من الفوقية والوصاية على أفكار الناس، وتضع لها خصوصية لا تريد مشاركة غيرها بها؛ لكن في المقابل يجب نقد «النخبة» الجماهيرية، لأنها - في نظري – ليست إلا استبدال نخبة بنخبة أخرى، فهي عامل من عوامل زيادة الشهرة من خلال الخديعة باسم الجماهير في تحقيق «النخبة»، بحيث يمكن تحقيق رأسمالية رمزية ومادية من خلال الخديعة الجماهيرية.