الحج فرصة للمسلم لكي يرى الحياة على حقيقتها، فتنكشف له حقائق الحياة كما سوف تتكشف له عند الموت، فيعلم أن كثيراً من الأمور التي اعتاد أن يراها مهمة، أو ثمينة، يمكن الاستغناء عنها
شرُفت بجمع الأعمال الكاملة لمعالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين رحمه الله، وتحريرها، في مجلدين كبيرين.
كان الشيخ رئيسًا لشؤون الحرمين الشريفين، ورئيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وقد جمع الله له من الفضائل ما تفرق في غيره؛ فهو القانوني المتشرّع، وهو الزاهد المتواضع، يشهد له بالصلاح والتقوى من خالطه وعرفه واقترب منه، مع هدوء ملحوظ وسكينة، وتديّن عميق واسع، وعقل كامل ناضج، ورأي سديد، وحسن منطق، وحكمة وفهم.
وللشيخ مقالات عدّة كتبها عن الحرمين، وعن الحج والحجيج؛ ومن ذلك مقالة له بعنوان «تجربة حاج»، موجودة في القسم الذي خصصتُه في مجموعة أعماله عن شؤون الحرمين والحج.
يذكر الشيخ صالح في هذه المقالة الجليلة الفائدة أن أحد أصدقائه ذكر له أنه كان يحج حجًا محاطًا بالتسهيلات، يسكن حجرة فارهة، ويتنقل بسيارة خاصة (يبدو أنه صاحب منصب رفيع)، ولكنه كان يجد تعبًا وإرهاقًا. واقترح عليه صديق عزيز أن يحجّ كسائر البسطاء، يضع حقيبته على ظهره، وينتقل بقدميْه، ينام مع الناس، ويسير معهم. مدعيًا أنه سيخوض تجربة فريدة.
يذكر الشيخ الحصين – وقد كان حينها قد ناهز السبعين من العمر – أنه جرّب هذه الطريقة، فوجد من اليسر والسهولة والمتعة ما لم يكن يجده من قبل، يقول: «كان أمرا مدهشا أن أحس لأول مرة أن أداء الحج يمكن أن يكون سهلا ميسرا لا عنت فيه ولا تعقيد، ولكن أكثر من ذلك أن أجرب أحاسيس ومشاعر جديدة، فقد جربت أن أستمتع حقا بأداء العبادة، لا لأن العبادة تعطيني فقط الأمل في الثواب، بل لأنها بالإضافة إلى ذلك كانت نفسها مصدر متعة، كنت أشعر بالقرب من أخي الإنسان والتعاطف معه وأتمثل عمليا معنى {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10]، وأدركت مقاصد للحج من الغريب أني لم أدركها من قبل».
ويعدد هذه المقاصد، ومنها:
رياضة النفس على الصبر والتحرر من عادات الترف والتكلف، وهذا واضح من أن الحج لما فرض – في الإسلام – كان يوجب على الرجل الامتناع عن الطيب وبعض مظاهر الزينة، مكتفياً بالبسيط من اللباس، ضاحياً للشمس مدة السفر من ذي الحليفة – ميقات المدينة – إلى مكة المكرمة، وهي عادة عشرة أيام، ويفرض على المرأة التي كان النقاب والقفاز يحميان نضارة ونعومة يدها أن تخلعهما وأن تضحي للشمس كل هذه المسافة سافرة الوجه بارزة للشمس والكلف والغبرة، ممتنعة عن الطيب ومظاهر أخرى للزينة.
وقد وصف الحج بأنه (جهاد) لا قتال فيه ووصف الحجاج بأنهم يأتون {رجالاً وعلى كل ضامر} [الحج: 27] وإذا كانت الراحلة ضمرت من مشقة السفر ووعثائه فكذلك راكبها.
ومنها:
اجتياز دورة تدريبية في التواضع، فقد حج – أسوتنا – صلى الله عليه وسلم – على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم وقال: «اللهم حجاً مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة». والتواضع ليس فقط قيمة أساسية من قيم الإسلام، بل هو مصدر لتوليد وتطوير وتنمية عدد من القيم الإسلامية الأخرى، ونقيض التواضع الكبر. والآيات القرآنية التي وردت فيها مادة (كبر) وما اشتق منها تبلغ اثنتين وأربعين آية، وكلها تبين أن الكبر سبب الضلال أو نتيجته أو سمة الضالين أو وصف سببي لاستحقاق العقاب الدنيوي والأخروي، والمتواضع قادر على تحقيق الوسطية (سمة الإسلام) وبالعكس فلا ترى غالياً أو متطرفاً في أحد الجانبين إلا وفي صدره كبر ما هو ببالغه.
ومنها:
وجود فرصة للمسلم لكي يرى الحياة على حقيقتها، فتنكشف له حقائق الحياة كما سوف تتكشف له عند الموت، فيعلم أن كثيراً من الأمور التي اعتاد أن يراها مهمة، أو ثمينة، ولا يمكن الاستغناء عنها غير مهمة ولا قيمة لها، ويمكن الاستغناء عنها، ويرى الفروق التي أوجدها الناس بين الناس فروق اصطناعية وزائفة. ولا وزن لها في ميزان الله، فإذا أجبرته ظروف الحياة على مراعاة هذه الفروق وانعكست على جوارحه الظاهرة ولم يتأثر به قلبه الذي يبقى شاهداً على الوحدانية، موقناً بأن الحياة الدنيا متاع الغرور.
يقول الشيخ الحصين في ختام مقالته هذه:
«قال صاحبي بأن كل ما أتمناه أن يهتم وعاظنا بتوعية الناس بهذه المقاصد، وأن يأخذ المسؤولون في وزارة الحج في الاعتبار عند تخطيطهم للحج وتنظيمه ورسم إجراءاته تشجيع الحجاج على تحقيق تلك المقاصد، ومن باب أولى أن يتفادوا أي تعويق لذلك».