ستنظر الأجيال القادمة إلى ما قام به تنظيم الحمدين على أنه عمالة مكتملة الأركان لأعداء الأمة، وأنهما قدَّما مصالحهما وانتماءهما الحزبي الضيق على مصالح الأمة الواسعة

في خطوة تصعيدية جديدة لخلافاتها مع دول المقاطعة، كشفت الحكومة القطرية عن مخططها الرامي إلى تفكيك منظومة مجلس التعاون لدول الخليج، عبر تصريحات وزير خارجيتها محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، التي ألمح فيها إلى «عجز المجلس» عن إيجاد حل للأزمة الحالية، معتبرا أن «إعادة الثقة بين دول المجلس تتطلب وقتا أطول». ورغم أن الوزير القطري استدرك – كعادته عقب كل تصريح من هذا النوع الصادم – وأشار إلى أن بلاده «لا زالت تعتبر أن هذه المنظمة مهمة جدا بالنسبة لنا جميعا في هذه المنطقة»، إلا أن ذلك التصريح، وفي هذا الوقت الحرج الذي تمر به المنطقة يكشف بوضوح وجلاء حقيقة المخطط الذي تنفذه الدوحة بالنيابة عن أطراف أخرى، لتفكيك مجلس التعاون، كمدخل لإضعاف الدول الخليجية، وجعلها تعيش في معزل عن بعضها البعض، توطئة لزيادة التدخل في شؤونها ومن ثم إسقاطها وإدراجها في فلك المحور الإيراني.
ورغم عدم الاستغراب من إطلاق الوزير القطري لتصريحه الذي يحمل دلالات كثيرة، في هذا الوقت بالذات، إلا أن ما يثير الأسف هو تبني حكومة الحمدين تنفيذ هذا المخطط، دون دراية أو بصيرة، فغير صعب على أي متابع للشأن السياسي إدراك المخطط الإيراني الرامي إلى التهام كافة الدول الخليجية، بلا استثناء، وتوجيه مقدراتها وإمكاناتها الضخمة للسيطرة على بقية الدول العربية، وإعادة تشكيل الإمبراطورية الفارسية التي غابت عنها الحياة مع جحافل الفتح الإسلامي، وهو المخطط الذي لم يعد ساسة طهران أنفسهم يكلفون أنفسهم عناء إنكاره أو نفيه، وليس بخاف على أحد تصريحات المسؤولين الإيرانيين وتبجحهم بقرب «السيطرة على أربع عواصم عربية»، هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء.
إذا كانت طهران تظهر الود لساسة الدوحة اليوم، فإن دور الأخيرة في المخطط الفارسي آت لا محالة، ولو بعد حين، فأولويات نظام الولي الفقيه تقوم على استخدام بعض الأنظمة ضد الأخرى، وهذه هي اللبنة الأساسية في ذلك المخطط، وهي استخدام العملاء والأدوات، وكلنا يعلم أن طهران حرّضت الأقليات ضد دولها، وأوهمتهم بأنهم يعانون من الاضطهاد والاستغلال، وأزكت نيران النعرات الطائفية في أوساطهم، ولم تجرؤ على التدخل بصورة مباشرة في أي من الدول التي ابتليت بتدخلاتها، ففي العراق استخدمت الميليشيات الطائفية، والساسة الذين خانوا بلادهم، على غرار نوري المالكي، وفي لبنان أوكلت ذات المهمة لحزب الله، وفي اليمن استخدمت جماعة الحوثيين، وفي سورية – ورغم اضطرارها في وقت من الأوقات، لظروف الحرب المباشرة الدائرة بين جيش الطاغية بشار الأسد وكتائب المعارضة المسلحة إلى إرسال خبراء عسكريين - إلا أنها سرعان ما تراجعت وعادت لنفس سياستها القديمة، عبر تجييش ميليشيات المرتزقة الطائفية من أفغانستان وباكستان، لمساعدة النظام المنهار.
الآن انتقلت طهران إلى الخطوة التالية، وهي محاولة استخدام الدول المستهدفة ضد بعضها البعض، وكانت البداية بنظام الحمدين، الذي استغلت طموحاته غير الواقعية، ومحاولاته لعب دور أكبر من حجمه الطبيعي، وكان التوقيت الذي بدأ فيه المخطط في غاية الخطورة، فلم تكد تمر 48 ساعة على القمة الإسلامية الأميركية التي كانت مخرجاتها تصب في اتجاه محاصرة النظام الإيراني المارق، والتصدي لتدخلاته السالبة في شؤون دول المنطقة، حتى أوعزت لحكومة الدوحة بالعمل على إشغال المنطقة في أزمة جديدة، لإفراغ القمة من محتواها، وصرف الدول عن تنفيذ مخرجاتها، فكان أن خرج أمير قطر وأدلى بتصريحاته الصادمة التي تسببت في الأزمة، عبر زعمه بأن إيران «دولة إسلامية كبرى ليس من الحكمة معاداتها أو مواجهتها».
الشريك الآخر في تنفيذ مخطط تفكيك منظومة دول مجلس التعاون الخليجي هو جماعة الإخوان المسلمين، التي لم تر في دول المجلس إلا عقبة تحول دون تنفيذ مخططها الرامي بدوره إلى السيطرة على الدول العربية، وفرض آرائها المرفوضة على عموم المسلمين. ومعلوم أن الجماعة الإرهابية اتخذت من المال وسيلة أساسية لتنفيذ مخططها، فتسللت وسط المجتمعات العربية، وتغلغلت في منظومتها الاقتصادية، وامتلكت الشركات التجارية والبنوك والمحلات التجارية، وأقامت عددا من المنظمات التي توارت خلف لافتة العمل الخيري، لتقديم المساعدات المشروطة للفئات المستهدفة، لضمان ولاء أفرادها، إضافة إلى ما يستلزمه إنشاء الخلايا السرية، وامتلاك الكميات الضخمة من الأسلحة وتكوين الميليشيات، لذلك توجهت أنظارها نحو الدول الخليجية، كمصدر رئيسي للحصول على الأموال.
وتركز السياسة الإخوانية على سحب قطر بعيدا عن شقيقاتها الخليجيات، للحصول على المال الذي يتيح لها تنفيذ مخططاتها، ولا ينكر أحد حجم التغلغل الإخواني في القيادة القطرية، وحجم النفوذ الذي تحظى به الجماعة في الدوحة، ومن المؤكد أن هذا التوجه بدأ حتى قبل انقلاب حمد بن جاسم على والده، حينما مُنح الشيخ يوسف القرضاوي حق اللجوء والإقامة في قطر، وبدأ الأخير في تهيئة الأجواء لزيادة النفوذ الإخواني هناك.
رغم ضخامة المخطط، أُطمئِن الحادبين على مصلحة المجلس بأنه كفيل بالتصدي لكل تلك المؤامرات، وإن كانت من بعض بنيه الذين ابتلوا بالعقوق، فحكماء الخليج وشيوخه قادرون على صيانته وبقائه، فقد أكسبتهم تجارب الأيام وخبرات السنين القابلية لرد كيد الكائدين، وقد مر المجلس في فترات سابقة بمحن مشابهة، وأزمات مثيلة، خرج منها وهو أكثر قدرة على أداء دوره القيادي، الذي لم يقتصر على الدول الأعضاء فقط، بل شمل كافة الدول العربية، وكان له القدح المعلى في الحفاظ على وحدة واستمرارية جامعة الدول العربية، عبر توحيد المواقف وتقريب المسافات. وإن كان ساسة الدوحة يعتقدون أن السباحة عكس التيار أو التغريد خارج السرب دليل على التميز والتفرد فهم خاطئون، فهو ليس إلا دليلا على الرغبة في إذكاء الخلافات، فالعالم اليوم يجنح بكلياته نحو التقارب والوحدة، وتشهد دوله مساعي حثيثة في هذا الإطار، وإذا كان التاريخ سيكتب للحمدين ما انفردا به عن بقية قادة وساسة دول الخليج، فإنه لن يتجاوز مساعيهما لتفكيك دول المنطقة، ودورهما الأسود في إشعال الفتن، وستنظر الأجيال القادمة إلى ما قاما به على أنه عمالة مكتملة الأركان لأعداء الأمة، وأنهما قدَّما مصالحهما وانتماءهما الحزبي الضيق على مصالح الأمة الواسعة، واتبعا في سبيل تحقيق تلك الغاية الفاسدة وسائل أكثر فسادا، على شاكلة التدخل في شؤون دول الجوار، وزرع ألغام الفرقة، وإضعاف النسيج المجتمعي، فالتاريخ لا يرحم، وسجلاته باقية.