يمكن فهم الاستماع على أكثر من مستوى. سأتحدث هنا عن مستويين أساسيين: المستوى المعرفي والمستوى الأخلاقي. المستوى المعرفي يعني انفتاح المستمع على ما يقدمه المتحدث من معلومات ومعارف ومشاعر. الاستماع هنا عبارة عن عملية توصيل من طرف إلى طرف آخر. الأمر الأساسي في هذه العملية هو المحتوى المعرفي الذي يتيح الاستماع نقله من شخص إلى شخص آخر. من المهم في هذا المستوى أن يستطيع المستمع فهم ما يسمع، وهذا يعني أن يحيل ما يسمعه إلى جزء من معرفته الذاتية. هذا ما يسميه ليفيناز تحويل الآخر للمشابه. الاستماع المعرفي معني بما يقال The said، أي بمحتوى الكلام. هذا المحتوى قد تم وضعه في سياقات معرفية مشتركة بين الذات والآخر لكي يكون قابلا للنقل. هنا التواصل بين الذات والآخر محكوم بوسيط ثالث لا بد من المرور عليه وهو وسيط المشتركات المعرفية التي لا يتم الفهم بدونها. هذا الوسيط يقف شرطا للتواصل ولكنه أيضا يقف كحجاب عن كل آخر لا يتوافق معه. هذا يعني أن العلاقة بين الذات والآخر في هذا الأفق محجوبة عما لا يتوافق مع المعايير المعرفية والمشتركات الذهنية التي يمر التواصل من خلالها. هذا يعني أن الآخر محجوب خارج الأفق المعرفي. لذا فإننا نواجه مشكلة في استضافة آخرية الآخر إذا بقينا في هذا المستوى. بحسب ليفيناز فإن المستوى المعرفي، مستوى ما يقال، ينتمي للمستوى الأنطولوجي الذي، بالضرورة، يتم رد الآخر فيه للذات. المستوى الميتافيزيقي الأخلاقي مستوى مختلف عن المستوى المعرفي، ولكنه كذلك لا يغادر ظاهرة الاستماع.
ما الذي يتم في الاستماع غير نقل المعلومات والمعارف والمشاعر من طرف لآخر؟ ما الذي تحتويه هذه الظاهرة ولا يستغرقه المستوى المعرفي؟ بحسب ليفيناز فإن الاستماع قائم أساسا على ظاهرة القول Saying وهي تعني عنده مسؤولية الذات تجاه الآخر. أي بعد العلاقة بين الذات والآخر الذي يجعل التواصل ممكنا. لولا أن الذات تشعر بالواجب الأخلاقي للاستماع للآخر لما تحقق الاستماع. نلاحظ هنا أن الاستماع، والتواصل عموما، يتوقفان تماما حين يفقد أحد الأطراف «الاهتمام» بالآخر. هنا ينفك الرابط الأخلاقي القائم على الشعور بالمسؤولية تجاه الآخر والاهتمام والعناية به. يمكن التعبير عن هذا المستوى الأخلاقي بالروح المُحبة التي تسبق الكلام بين الطرفين، ذلك الإحساس الذي يشعره أي منا أن الطرف الآخر فعلا مهتم به وبما يقول. كذلك يمكن وصفه بالشعور بالأمان وأن ما بين الذات والآخر ليس محكوما بما يقال. لذا نشعر بالحرية ونتحدث بما نعتقد لأننا نعرف أن الطرف الآخر لن يغادرنا لأنه لم يتفق معنا أو لأنه لم يفهمنا. هذا المستوى متجاوز للفهم لأنه يعني استقبال الآخر والعناية به بدون شروط. هذا شبيه بالمضيف الذي يرحب بضيفه الغريب دون أن يفهم ظروفه التي قادته لبيته.
لا يمكن لأي من المستويين أن يغني عن الآخر. المستوى الأخلاقي، مستوى القول، لا يستغني عن المضمون فهو بمثابة جسد التواصل، بمثابة الحضور الذي يربط الذات والآخر بالعالم. يجب على مضمون القول، كما يؤكد ليفيناز، أن يعمل على تذكيرنا بما هو مفارق وبما هو آخر، أن يوقظ القول فيما يقال. هذا ليس غريبا فنحن نعرف أشخاصا يحمل كلامهم عبارات الانتماء للآخر والعناية به. لو حللنا الخطابات المتداولة بين الأطراف لأمكننا تقسيمها إلى عبارات المعرفة وعبارات العلاقة. عبارات المعرفة تنقل المعلومات أما عبارات العلاقة فهي تؤكد على العلاقة بين الذات والآخر. في حال معينة نجد أن الطرف الآخر يعبر عن تعاليه على الآخر أو عدم الاهتمام به، لفظيا أو جسديا، لذا فهو يخون التواصل. في المقابل نجد في حالات أخرى أن الحب والعناية يتدفقان في تواصلنا مع إنسان آخر: العناية بالآخر والاهتمام به تظهر في مفردات الاهتمام وفي نظرات العناية وفي الصبر بمحبة. ما يميز المستوى الأخلاقي هو الاستسلام للآخر والتخلي عن السيطرة في العلاقة معه. هنا الآخر ليس ضمن أفق الذات بل متعاليا عليها. لذا فالحديث مع الآخر بدأ قبل قرار الذات بالحديث. بدأ بثقة الآخر في الذات وإقباله عليها للتواصل. هذا شبيه بقولنا إن الضيافة لا تبدأ بفتح الباب بل تبدأ بثقة وإقبال الضيف. لذا يشعر المضيف الحقيقي أن الضيف هو صاحب الفضل الأول لأنه وثق في صاحب البيت وطرق بابه. هنا نفهم لما يقول ليفيناز أن الصداقة والضيافة هما أصل اللغة. الصداقة والضيافة هنا هما المستوى الأخلاقي الذي يجمع الذات بالآخر ويجعل التواصل واللغة ممكنين. في الإنجليزية تأتي مفردة الرد على الآخر response والمسؤولية تجاه الآخر responsibility من جذر واحد لتكشف العلاقة بجلاء. الصداقة والضيافة نماذج فائقة للعناية بالآخر ورعايته والاهتمام به. الآخر لا يختفي في المستوى الأخلاقي لأن الذات لا تهيمن على فضاء التواصل. في هذا المستوى نستطيع التواصل مع أولئك الذين لا يجيدون أو لا يعرفون أو لا يستطيعون التعبير عن ذواتهم. في هذا المستوى نقول لهم كما يقول المضيف الحقيقي، مرحبا بكم مهما كنتم، سنستمع لكم حتى في صمتكم.