قضيت سحابة نهاري وتباشير ليلي ما قبل الأمس في رحلة استكشاف لغور تهامي بالغ العزلة ومبالغ جداً في تضاريسه المخيفة. قلت لزملاء المشوار في نهاية الظلام إن في بعض سلوك البشر مع الاستيطان واختيارهم للمكان فكرة عدمية تصعب على التفسير والتبرير. كيف اختار أجداد هؤلاء القدامى هذا المكان ليحيلوا حياة أطفالهم في هذا الزمن إلى ما يشبه القبر المفتوح دون أدنى بصيص من الأمل. أعدت على مسامعهم قصتي الخاصة مع زميل دراسة أميركي حين داعبته ذات زمن على خيارات أهله الذين تركوا كل أميركا الجميلة الساحرة ليستوطنوا قفار ولاية أريزونا حيث لا شيء سوى شجر «الصبار» بين الصخور السوداء التي وكأنها قدمت من شمس. أجابني فوراً: ولماذا اختار أهلك أن يسكنوا صحراء العرب حيث هي كمن يستوطن كوكب الشمس.
كان نقاشنا الأساسي: هل يستطيع هذا الغور المخيف أن يستقبل حتى الحد الأدنى من التنمية في مدرسة ومستوصف يعمل كفصل لمحو الأمية أو خزانة أدوية منزلية، دعونا نبتعد عن المثاليات الطوباوية فالذين قبلوا بالذهاب إلى وظائف هذا المكان لن يعطوه ولا حتى عشر الجهد الذي تحتاجه الوظيفة. إرسال معلمة أو ممرضة إلى كل تلك العزلة والقسوة هو خطيئة في حق «أنثى» في هذا المجتمع البطركي الذكوري. بعض الأمكنة والجيوب الجغرافية تستحيل على التنمية ونحن نظلم أهلها وأطفالها وأجيالها بكذبة وصول خدمات ليس من وظائف لها سوى لوحات الخدمة الرديئة المتهالكة على جدران بيوت الصفيح. ومن أراد أن يجادلني في رأيي فأنا على استعداد للذهاب معه كي يقف على التجربة. مرة أخرى، وللتأكيد: نحن نظلم هؤلاء حين نقف متفرجين على بؤس أطفال ونساء في هذه الجيتوهات الصخرية. أنا مع النقل الديموغرافي ومع إعادة التوطين والتجميع وهي نظرية فعلتها
من قبل شعوب تحترم حق أجيال في الحياة بكرامة. أعرف مسبقاً أن للنظرية ضريبتها المكلفة نفسياً واجتماعياً وثقافياً على الجيل الحالي من آبائهم بالذات، في الارتباط العاطفي بالمكان، لكن التضحية مفروضة من أجل حق أولادهم أن يذهبوا للحياة بمغادرة هذا القبر المفتوح. فعل هذا آباؤنا من قبل وهم بمئات الآلاف يوم غادروا قراهم
في كل زاوية من أجل حياة لنا عندما بدأت بشائر مدننا السعودية الوليدة مع أولى رياح التنمية. فعل الشيء نفسه آباء المهاجرين والمهجرين إلى القارة الأميركية واليوم يشكر أجيال أسلافها على كل ما فعلوه وعانوه ودفعوه من ضرائب التجربة. نحن فعلنا نفس الشيء في فكرة مراكز النمو التي يعارضها البعض، وأقول لهم لا تحكموا على تجربتها الأخلاقية إلا بعد ثلاثين سنة. أمامنا قرية «الحبلة» التي كانت أول فكرة إعادة توطين سعودية واسألوا أهلها اليوم عن ثمارها الإنسانية. هناك جيوب جغرافية تستحيل معها التنمية.