تكرر النداء كود بلو.. كود بلو.. قسم الطوارئ.. قسم الطوارئ.. إنه نداء يعني أن هناك مريضا توقف قلبه؛ فهو يسبح بين الموت والحياة وفي دقائق معدودة وملك الموت في الطريق إليه..
كان زميلي الدكتور محمد جراح الصدر قد جاء لتوه وعليه علامات الإعياء.. قلت له: آمل ألا يكون لنا نصيب فيه.
قلت ذلك لأنني أعلم تماما ترافق وتنوع الإصابات من بطن وصدر وأوعية وعظام وعصبية، إنها حوادث مريعة تلك التي تواجهنا فلا نصدق أننا في حالة سلم أم حرب.
أجاب وقال: لا .. كانت حادثة عجيبة من رجل يبدو عليه أنه في منصب محترم؛ فثيابه وهيئته تدل على أناقة وراحة، ولكن الموت كان أقرب إليه، قلت له: ما الذي حدث؟ قال: لا نعلم على وجه الدقة، ولكن يبدو أنه سقط من شاهق، ولا نعرف تماما ما الذي أسقطه، سقط أم أسقط؟ ولكن الإصابة والنزف الحاد وضعا حدا لحياته.
إنها يوميات مكررة، من حوادث شتى، في إصابات مخيفة، وكأننا في ساحة حرب فعلية، واعترف أنني أحيانا أواجه بحالات احتار في كيفية حدوثها من كسور شتى وإصابات منوعة بين طحال وكبد ورئة وأمعاء وعظام ورأس وسيقان، تضاف لها إصابات وعائية حادة في الأطراف تحتاج تداخلا طويلا يمتد إلى ساعات، فهي دماء حتى مطلع الفجر.
أذكر تماما المريض عبدالعظيم الذي استغرقت عمليته عشر ساعات، أو عبدالقيوم أيضا الذي استغرق تصليح إصاباته قريبا من عشر ساعات وكانت حافلة بالتحدي للإصابة المضاعفة في الشرايين والأوردة، أو المريضة التي التهب عندها شريان الأبهر وانفطر، فكانت عمليتها من حجم 14 ساعة متواصلة، يصب الأدرينالين في دمنا صبا، وكانت أصعب ساعة فيها الساعة الأخيرة قبل أن ينتصف الليل، وكنا قد بدأنا عملنا في الصباح!!..
لقد وضع النظام الطبي شيفرات خاصة للإصابات لعل أهمها هي الشفرة أوالكود الأزرق، وهي إعلان يأتي من السنترال مباشرة فيرن في كل أرجاء المستشفى، وهناك طاقم متخصص لمثل هذه الحالات يهرع إليها خلال دقائق معدودة؛ فيكون على رأس المريض، لأنه يعلم علم اليقين أن الدقائق في هذا الوقت تلعب دورا رئيسيا في دفع المريض إلى لجة الموت أو إعادته إلى شاطئ الحياة الجميل، والموت والحياة بيد الرب الغفور الرحيم الذي كتب الأجل وقدر الحياة والموت ليبلونا أينا أحسن عملا.
وهذا التقسيم جيد وعملي في المشافي؛ فيهرع الطاقم الطبي في لحظات مع الأجهزة والمحاليل والأدوات، بما فيها جهاز صعق القلب كهربيا كي يستيقظ من الصدمة، ولا ينجحون في كل مرة، كما أن النداء قد يكون كاذبا كما في قصة الراعي الكذاب لذا وجب تصديقه دوما وإلا أكل الذئب الغنم، ولذا فهم يحصون عدد الحالات الصحيحة من الكاذبة.
وما يدفع الممرضة أو الطبيب إلى هذا النداء الذي يتم تجاوز البيروقراطية فيه، أن حالة المريض تتردى فجأة فلا يشعرون بنبض وضغط، ويرون أن المريض ينهار بين أيديهم؛ فيسارعون في طلب فريق الشيفرة الزرقاء كود بلو...
وهذه التلوينات في الطب تبلغ ربما عشرة ألوان بين أصفر وأحمر وأخضر ورمادي ووردي وفحمي مما ينساها المرء دوما، تتناول الإصابات في الكوارث وإحضار العديد من الحالات دفعة واحدة، بل وحتى وجود شخص في المشفى يقوم باعتداء يجب ردعه، أو خطف طفل، أو اندلاع حريق؛ فينادى بالكود الأخضر والرمادي والأحمر وما شابه.
مع ذلك فكثرة الألوان يضيع الذهن في حفظها، ولعل الأطباء يتعاملون مع الشيفرة الزرقاء أفضل من غيرها، لأنها نداء يتكرر في أروقة المشافي تقريبا كل يوم، فمن يسمع هذا النداء، وهو في المشفى فليعلم أن أحدا من عباد الله من ذكر وأنثى فاجأه فريق الموت في زيارة مريض، أو هرع الفريق الطبي لمريض آخر في محاولة مده بحبال النجاة والإفلات من براثن الخطر المحدق به.
كثيرة هي الحالات التي رأيتها لأشخاص فارقوا الحياة، منهم صاحبنا الأنيق الذي مررت بجنب جثته، وأفكار كثيرة تدور في ذهني فأقول: قام صاحبنا اليوم مرحا؛ فسلم على زوجته، وودع أطفاله، وتناول فطوره، واحتسى قهوته، وصلى على النبي واستقبل يومه وباشر عمله، وهو لا يعلم أنها الساعات الأخيرة من العمر، وأن بينه وبين الموت شعرة في طريقها أن تنقطع؛ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
هكذا هي الحياة قصيرة سريعة.
قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين.