تمر الحياة بسرعة، منّا من يعيشها وهو منغمس بكل لحظة، يستمتع بمرور الزمن وهو على الطريق أكثر من الوصول إلى الهدف، ومنّا من ينتظر إلى أن يتحقق الهدف ليسترخي ويسعد، واليوم مَن وصل منّا إلى العقد الخامس فما فوق من عمره لا بد أنه من جيل عايش الحياة بكل جوارحه، تعرف عليها من خلال خبراته الشخصية المباشرة؛ تذوّق واستنشق ولامس ورأى، أي مباشرة دون وسيط، وبعد كل هذا هل نتوقع أن يرضى بأن يتنحى
إلى الصف الثاني أو الثالث، ويصبح أحد المتفرجين في مسرحية الحياة؟!
هل نتوقع أن يُفرض عليه أنّ دوره قد انتهى وليس عنده ما يقدّمه إلّا أن يقف في منتصف الطريق ينتظر مرحلة التقاعد ليحجز له مقعدا أمام التلفاز أو في قهوة منزوية يجتمع فيها مع أمثاله للثرثرة ولعب الورق والطاولة، أو حتى مناقشة كل شيء وأي شيء، وفي النهاية لا يد له في البداية أو النهاية؟ لقد عايش تغيرات كثيرة من الأحداث الاجتماعية والسياسية والمفصلية من تاريخ الأمة ووصل إلى هنا، إلى هذا الوقت هذا الزمن، وأليس من حقه أن يكمل بنفس الحيوية والتفاعل؟! مَن غيرُه له الحق في أن يقرّر كيف سيكون الغد؟ طالما أنه موجود إذًا له دور، وهذا الدور يعطيه الحق، وهذا الحق يعطيه الدافع ليكمل وهو واثق من قدراته ومن مهاراته ومن خبراته، بأنه إن تمسك بكل الخيوط بيده فسيكون هو اللاعب ولا يسمح لأحد غيره بأن يشد هذا الخيط ويرخي ذاك!
أعجبتني نصائح لهذه المرحلة من الحياة نشرها الراحل أرنولد بالمر، لاعب الجولف الشهير، والتي وصلته يوما من صديق عزيز، ولهذا ارتأيت أن أترجم لكم بعضها مع إضافات من عندي كعادتي حين أقوم بمشاركة القراء بأعمال الغير، يقول:
إن وصلت بك الحياة إلى العقد الخامس وما بعده، فابدأ بالتفكير بكيفية استخدام ما جمعته للاستمتاع به، إن كان خبرة فترجمها إلى كتب أو دراسات أو استشارات، وإن كان مالا فوجّهه إلى هوايتك مثل رحلات أو أعمال خيرية، تطوعية، حتى إنشاء مشاريع كانت مجرد حلم لديك، ولكن لا تنجرف وراء الاستثمارات، فأنت في غنى عن ضغوط الربح والخسارة، والتعرض لمخاطرة التجارب الفاشلة، هذا وقت السلام والهدوء، فلماذا تعكّره بما قد ينكد عليك ويزعجك!
أما بالنسبة للأبناء والأحفاد فإن كنت قد اعتنيت بهم وعلمتهم ووفّرت لهم الغذاء والمأوى والدعم، فهم إذًا ليسوا بحاجة إليك، بل للاعتماد على أنفسهم لرسم خارطة حياتهم في حياتك ومن بعدك، هم من يجب أن يكسب قوته، وليس أخطر من أجيال تتركها بلا علم ولا خبرة ولا مسؤولية لتبدد كل ما جمعته أنت في حياتك! وإن لم تفعل من قبل، فقد جاء الوقت لتعتني بصحتك وتتابع مع طبيب مختص حتى إن كنت لا تشعر بأي مرض لا سمح الله،
والتزم بالتمارين الرياضية المعتدلة مثل المشي أو السباحة مع الحفاظ على الغذاء الصحي وتنظيم أوقات النوم والراحة، ففي هذا السن فرص التعرّض للمرض كبيرة، والشفاء قد يكون بطيئا.
دلل نفسك، ولِمَ لا! استمتع مع شريكة حياتك، وقدّر كل لحظة تقضيانها معا، ربما يأتي الفراق ذات يوم وأنت منشغل عنها فتأسف، وربما تنهار ندما على ما فاتكما من أوقات جميلة كان من الممكن أن تكون، لا تضغط على أعصابك وتركّز على كل صغيرة وكبيرة، ولا تسترجع أحداثا كانت مؤلمة وكأنك تعاقب نفسك لأنك لم تفعل أو لم تقل أو لم تتصرف، أو لأن هذا جرحك، وآخر تعدّى، وذاك شمت، وغيره غدر، ارمِ بكل هذا وراء ظهرك، وانظر إلى غدك تسعد.
عش قصة حب مع شريكة حياتك، أو جدّد هذا الحب، وانشره في جميع تفاصيل حياتك، أحِبَّ عائلتك، جيرانك، زملاءك، العالم من حولك، ما تنشره سيعود إليك مضاعفا، احترم جيل الشباب وآراءهم، وقدّم لهم المشورة لا النقد، ولا تكرّر عليهم في زمنا وفي زمنكم، إنه زمنك وزمنهم، أنت هنا الآن تسجل كما يُسجل عليك.
 ولا تنسى أن تكون فخورا بمن هو أنت شكلا وروحا وفكرا، واهتم بمظهرك واعتن به إن كان ذلك يستدعي زيارة الحلاق وشراء الملابس والعطور، لِمَ لا طالما أنك لا تسرف ولا تتصابى؟ فخارجُك يؤثر على داخلك ويزيدك ثقة وقوة، إنه جزء منك فلا تهمله خوفا مما سيقوله الناس! تابع تثقيف نفسك من خلال الكتب والصحف ومشاهدة الأخبار والإبحار في الإنترنت للمواقع المختلفة، لا أحد ينتظر منك أن تهمل مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تفاجأ بأصدقاء قدامى، وتتعرف أكثر على الجدد، فكثيرا ما تظهر لديهم زوايا لم تكن تعرف عنها شيئا، وتستحق الحوار والتقارب، وربما الاجتماع بين الفينة والأخرى للتذكر والمشاركة على أرض الواقع، خاصة إن كانوا ممن يسكنون مدنا أو بلدانا أخرى.
 قدر خصوصية الغير كما تقدر خصوصيتك، لا تتدخل إن لم يطلب منك، ولا تفرض نفسك على أحد، من يريدك فسيأتي، ومن لا يريدك فأنت في غنى؛ لن ينقص منك شيء، شارك من يقدّرك ويدعوك إلى مناسباتهم، واخرج إلى الحياة، وكن مع من يعتبر وجودك جزءا هاما من وجودهم، تحدث قليلا، واصغ كثيرا، ولا تتذمر وتشتكي أو تعيد سرد قصص وخاصة الطويلة، فنحن في زمن التركيزُ فيه صعب، فقد يشرد عنك المستمع لانشغال فكره بأمور أخرى، وليس لأن حديثك لم يشده أو يهمه، إن أراد التفاصيل فقدّمها، وإن لم يرغب فلن يسأل حتما، ولهذا اختصر لترتاح ولا تضغط على الغير، وإن غلط عليك أحد فسامحه، وإن كنت أنت من غلط فاعتذر، ولا تتحمل ثقل الندم على ضميرك إن استيقظت يوما ووجدت أنه رحل ولم يعد بمقدورك أن تعتذر أو تسامح.
وأخيرا لا تفرض رأيك ولا قناعاتك، كلٌّ قد اتخذ خياراته الخاصة، ومهما قلت فقد لا يشكل لهم الأمر أي إضافة، فلماذا تعرض نفسك للإحباط؟ معتقداتك ومبادئك وأخلاقياتك تكوّنت من خبراتك ومن ثقافتك ومن تجاربك، وكلٌّ سيمرّ بطريقه، قد يلتقي معك وقد لا يلتقي، ليس هذا نهاية العالم بل كينونته؛ تعدّد الطرقات واختلاف المنعطفات والاختيار مفتوحة للجميع، المهم ألّا تركز إلّا على ما تراه أنه أنت وليس على ما يريده الآخرون أن تكون، لا يهزك رأيهم، ولتكن ثقتك بما حققته أقوى، فهذا لا يقدّم ولا يؤخّر؛ لقد عشت حياتك وجربت وفشلت ونجحت، وأنت الذي يعيشها الآن، لذا استمتع بها إنه من حقك، وليست بيد أحد بعد الله سواك.