حين نقرأ الواقع من كل زواياه، سيتحول المستقبل حينها إلى معلوم، الأمر الذي سيؤثر في طبيعة البناء، فالهدف من المعرفة المستقبلية، منع ترحيل مشكلات الحاضر إلى المستقبل
إن كان يجوز -نحويا- بناء الفعل للمجهول، فإنه لا يجوز حين نتحدث عن بناء المجتمعات أن نبني الفعل للمجهول، فهنالك فرق بين إعراب جملة وبين أن يكون للمجتمع محلٌ من الإعراب، ولن يكون للمجتمع محلٌ من الإعراب
ما لم يكن المستقبل قبلته، هذا المستقبل المحجوب بالكامل ليس دائما مجهولا!، فالعلم بأدواته يساعد كثيرا في إزالة هذا الحجب، ليتحول المستقبل حينها معلوما لا يقين فيه، إنما فرضيات تبنى على أسس علمية وحسابات رياضية. والمجتمع الطامح إلى أن يكون له محل من الإعراب فعلا، عليه أن يضع هذه الفرضيات كأساس للبناء، وإلا فإن البناء سيكون حينها للمجهول، والبناء للمجهول هو البناء الذي يتخذ المستقبل شعارا لا أكثر، بينما ما يمارس على أرض الواقع هو حل أزمات الحاضر فقط، وليذهب المستقبل غير مأسوف عليه.
للتوضيح: في عام 1850، مر سكان مدينة «لندن» بظروف صحية كارثية، بسبب عدم وجود شبكة صرف صحي تستوعب التضخم السكاني الحاصل في ذلك الوقت، مما جعل النفايات ومياه الصرف تغمر الشوارع وتتسرب إلى نهر التايمز مصدر المياه الرئيسي، فانتشرت بالتالي الأمراض والأوبئة والروائح الكريهة، وزاد عدد الوفيات، وانخفض متوسط عمر السكان، إلى أن تقرر في عام 1855 بناء نظام صرف صحي لحل هذه الأزمة الراهنة. حسنا، لو توقف الأمر عند هذا الحد فهذا هو البناء للمجهول، إلا أن ما حدث أنه تم بناء نظام للصرف الصحي يحل الأزمة الراهنة، ويضمن عدم تكرارها للمئة والخمسين عاما التالية، أي حتى عام 2000، فما الذي حدث؟
الذي حدث في «لندن» عام 1855، أنه تمت قراءة حاضر ذلك الوقت، وعلى هذه القراءة تم وضع فرضيات علمية تستشرف المستقبل، وعلى هذه الفرضيات بدأ البناء.
الذي حدث أن الذين بنوا نظام الصرف الجديد لم يكن همهم الوحيد إيجاد حل للمشكلة الراهنة، إنما أيضا ألا يمرّ أبناؤهم وأبناء أبنائهم بالمشكلة ذاتها.
السؤال هنا: هل عبارة «البناء للمستقبل» التي بنيت عليها رؤية 2030 هي بناءٌ للمستقبل أم للمجهول؟، والجواب هنا ليس بنعم أو لا، فنحن حين ننظر إلى البناء المادي «المنشآت، الكباري، المدن الصناعية والترفيهية.. إلخ» نستطيع أن نجيب بأن البناء هنا فعلا للمستقبل، لكن حين ننظر إلى البناء غير المادي وهو الأهم والأصعب كـ«أساليب الإدارة، وطريقة عمل القضاء، كالضبط الثقافي في الإعلام والتعليم، كالإفتاء وآلية رقابة المؤسسات.. إلخ» فهنا أجدني جهلا سأكتفي بوضع علامة؟.
من السهل -نسبيا- أن يتم بناء ملاعب وشواطئ ومدن ترفيهية تلبي احتياجات أبنائنا وأبنائهم وحتى أحفاد أحفادهم، من الممكن قراءة الواقع خلال البناء المادي والاستناد إلى هذه القراءة لوضع فرضيات تستشف المستقبل، لكن الصعوبة تكمن في عملية التهيئة لبيئة مستقبلية ستتغير فيها أشكال الإدارة والقضاء والإعلام، وكل العناوين غير المادية، لكنها تضفي الحياة في كل ما هو مادي وملموس.
لنقرأ الواقع إذًا، ولنقرأه من زاوية الإعلام فقط، سنجد أبناء هذا الجيل يتعاملون بطريقة مختلفة مع إعلام مختلف جدا، وإن تعاملهم بهذه الكيفية مع هذا الإعلام مسألة قد أثرت سلفا وستؤثر أكثر في شخصياتهم وثقافاتهم وأنماط تفكيرهم، وحتى في طريقة عمل عقولهم، فمفهوم الرقابة مثلا يكاد يكون شبه غائب عنهم، بسبب طبيعة هذا الإعلام وطريقة تعاملهم معه، مما يجعلنا نفترض أن المستقبل لن تكون فيه الرقابة وعمليات الضبط الثقافي على الإعلام والأفكار، مسألةٌ ذات جدوى، كذلك أبناء هذا الجيل ليسوا مجرد متابعين للإعلام، إنما يشاركون في صنع المادة الإعلامية التي يرغبون في متابعتها، يصنعون «الشيلة» التي يريدون سماعها، والمقطع الذي يرغبون في متابعته، الأمر الذي يجعلنا نفترض أنهم سيرغبون غدا في صناعة القرارات التي تسيّر حياتهم. مثل هذه الفرضيات تتطلب أن يتم التحضير لها جيدا منذ الآن.
إننا حين نقرأ الواقع من كل زواياه، سيتحول المستقبل حينها من مجهول إلى معلوم، الأمر الذي سيؤثر في طبيعة البناء، ولا هدف من كل هذه المعرفة المستقبلية أو هذا التكهن المعرفي، إلا منع ترحيل مشكلات الحاضر إلى المستقبل، كي لا يبوء أبناء الغد بمشكلاتنا ومشكلاتهم، فترحيل المشكلة للغد ستعيدهم إلى حاضرنا حتما، وهذا ما يعرف بالدوران في الحلقة نفسها!
إن من يبلغ اليوم سن العشرين قد يشغل في 2030 منصبا مرموقا، قد يصبح وزيرا مثلا، سيجلس على الكرسي، وسيحاول أن يطبق ما يعرفه وما تربى عليه، وما تشبع به عقله وشخصيته، سيحاول ويحاول وسينطلق بأقصى سرعته، أما نهاية مسعاه فتتحدد من اليوم، إما أن يصل إلى أبواب تتم تهيئتها الآن لأن تفتح له غدا، أو أن يرتطم وبقوة بألف جدار.