يبدو أن حجر الزاوية في مختلف الرؤى الاستراتيجية والتكتيكية الأميركية بوجود أو غياب تنظيم «داعش» وأشقاؤه، هو درجة تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وقضاياه الساخنة، بشكل دائم
أثارت الأنباء عن احتمال مقتل زعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي، وانتهاء معركة الموصل في العراق، وقرب هزيمة «داعش» في الرقة السورية، تساؤلات في صفوف النخبة السياسية الأميركية حول «اليوم التالي» لشرق أوسط بدون «داعش» ودور الولايات المتحدة في عملية إدارته.
وفي هذا السياق، عُقدت رزمة مقارنات ومقاربات بين غياب البغدادي واغتيال أسامة بن لادن، وبين تنظيمي: «داعش» و«القاعدة» بنيوياً ووظيفياً.
في حالة تنظيم «داعش» يترافق غياب البغدادي، ذو الدور الرمزي، وليس العسكري. بمقتل غالبية قادته، وعلى نحو خاص منهم القادة من البعثيين السابقين الذين شكلوا قيادة الظل الميدانية. أما تنظيم القاعدة في العام 2011: فعندما توفي أسامة بن لادن، ظل الكثير من مساعديه ونوابه حاضرين للحفاظ على بقاء المنظمة. لكن لن يذوب الآلاف من مقاتلي «داعش»، بل ربما سيسعون إلى ابتكار منافذ بديلة للعنف. وكما أظهر تنظيم «القاعدة» من قبل، فإن خسران الأراضي لا يحد بالضرورة من قدرة المجموعة على إلهام أنصارها البعيدين عن ميدان المعركة.
وبينما كانت لدى «القاعدة» ميزة وجود الكادر الناجي من كبار القادة القادرين على إدامة الاستمرارية ومركزية الوجهة؛ لا يمتلك تنظيم «داعش» هذه الميزة. لذا من غير المرجح أن تبقى شبكته من الفروع التابعة متماسكة.
وثمة احتمال، يُعد خطيراً، «لمصالحة» بين «داعش» و«القاعدة» وحل الخلافات بينهما التي كانت خلافات أيديولوجية وشخصية. فعلى المستوى الأيديولوجي، زعم «داعش» أنه يمثل الخلافة المنبعثة، ولذلك يطالب بولاء المسلمين كافة - وهو شأن يرفض تنظيم «القاعدة» تقديمه. وبمجرد أن لا تعود هناك خلافة، فإن هذا الخلاف الأيديولوجي سوف يتلاشى.
وعلى المستوى الشخصي، يكره جماعة «داعش» أيمن الظواهري، الزعيم الحالي لتنظيم «القاعدة»، وينظرون إليه على أنه مغتصب للقيادة. ولن يسامح «داعش» أيمن الظواهري أبداً على دعمه لجبهة النصرة، التابع لـ«القاعدة»، عندما انفصلت عنه.
وثمة فكرة شائعة بين أعضاء «داعش»، هي زعمهم أنهم يمثلون «قاعدة بن لادن»، كنقيض لما يعتبرونه «قاعدة الظواهري». لكن ذلك اليوم ربما لا يكون بعيداً عندما يحمل أمير القاعدة مرة أخرى اسم مؤسسها. ممثلاً بنجل بن لادن أي حمزة بن لادن.
ويتعزز هذا الاعتقاد في أنه مع البغدادي أو من دونه، تبدو «الدولة الإسلامية» في شكلها الحالي محكومة بقدر الفناء. بينما أيديولوجية بن لادن ما تزال متجهة إلى النجاة والبقاء لفترة طويلة في المستقبل.
ويرى كولين بي. كلارك في دورية فورين بوليسي الأميركية أنه «لن يكون مقتل أبي بكر البغدادي كافياً وسوف تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية رئيسية تستخدم كل السبل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي تحت تصرفها». ويتمثل مبرر الحاجة إلى استراتيجية أميركية جديدة في أن العوامل الرئيسية التي أفضت إلى نشوء وارتقاء «الدولة الإسلامية»، «ما تزال، بما في ذلك الحرب الأهلية السورية والطائفية المميتة في عموم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، قائمة بقوة».
ويعتقد غراهام إي. فولر، المسؤول السابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية أن سقوط «داعش» سيكون موضع ترحيب لدى معظم المسلمين بالإضافة إلى الغرب. لكن علينا عدم الاعتقاد بأن الإرهاب الذي يرتكب باسم الإسلام سوف ينتهي بشكل آلي. فهذا الإرهاب، كما يعرفه على نحو موسع المتخصصون في هذا الشأن، لا ينبثق بشكل أساسي من اللاهوت -إنه من إفراز السياسة والاجتماع والأقليات المحرومة، أو حتى الأفراد الذين يواجهون مشاكل والساعين إلى تبرير أيديولوجي للتعبير عن الغضب الناجم عن حالتهم المرضية الشخصية (.....) وطالما كانت الظروف الراديكالية موجودة، فإن الظروف المواتية لمزيد من الإرهاب سوف تستمر في الوجود.
ويرى إليوت أبرامز، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، أن هزيمة «داعش» سوف تطرح سؤالين جدّيين جداً على الولايات المتحدة: الأول: مَن الذي سيملأ الفراغات التي يتم طرد المجموعة الجهادية منها؟ والسؤال الثاني هو: كيف يمكننا المضي قدُماً ضد الجهاديين السُنة الذين يواصلون التآمر على الولايات المتحدة؟.
وأشار إلى استنتاج غير مرحب به - وغير مرغوب بالتأكيد في البيت الأبيض وبالنسبة للكثير من الأميركيين. هو «إن هزيمة «داعش» لن تنهي تورطنا في صراعات الشرق الأوسط، وربما تقود في الحقيقة إلى زيادة هذا التورط. وطالما استمرت إيران في محاولة الهيمنة على كامل المنطقة، وبينما تواصل الجماعات الجهادية السنية استهدافها الولايات المتحدة، فإن هزيمة «داعش» ستغير -وإنما لن تقلل- حصة الولايات المتحدة في سياسات القوة في الشرق الأوسط».
ويشاطره الرأي روبرت مالي، نائب الرئيس لشؤون السياسة في مجموعة الأزمات الدولية، الذي يؤكد أنه «عندما يهدأ الغبار، سوف تواجه الولايات المتحدة شرقاً أوسط يناضل، ما يزال يناضل الشياطين المألوفين. وسوف تواجه أيضاً معضلتها المألوفة الخاصة: إلى كَم من العمق ينبغي أن تتورط في المنطقة؟».
ولذلك يرى أن الوسيلة المثلى لتأمين مصالح الولايات المتحدة في عالم ما بعد «داعش» هي «أن لا تنضم إلى -ولا تقوم بتكثيف- الصراعات التي لديها القليل من القول الفصل فيها، والتي يمكن أن تطلق العنان لنفس الفوضى والطائفية التي ولدت من رحمها مجموعة «داعش» الإرهابية، والتي تزدهر عليها. ويجب عليها العمل على تهدئة الحروب بالوكالة، والتوسط في اتفاق سعودي-قطري، والضغط من أجل وضع نهاية للحرب اليمنية، والتمسك بموقف محسوب تجاه الإسلام السياسي، وخفض التوترات بين السعودية وإيران».
أما كول بونزيل، مؤلف كتاب من الورق إلى دولة الخلافة: «أيديولوجية الدولة الإسلامية»، فيعتقد أنه «ستبقى الجهادية مقسمة. ومن شبه المؤكد أن تنظيم «الدولة الإسلامية»، الحاضر في شكل أو آخر منذ العام 2006، سوف يبقى على قيد الحياة. وكذلك سيفعل تنظيم «القاعدة». لن يبتلع أي منهما الآخر، ولن يجري أي منهما أي تعديلات أيضاً».
إجمالاً، يبدو أن حجر الزاوية في مختلف الرؤى الاستراتيجية والتكتيكية الأميركية بوجود أو غياب تنظيم داعش وأشقاؤه، هو درجة تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وقضاياه الساخنة، بشكل دائم، التي تحقق لها حماية مصالحها الحيوية بمردود عال وكلفة أقل.