رغم القدرة على تعلم الدروس إلا أننا مازلنا نعاني من تيارات تأبى أن تستوعب عواقب أحلامها وأفعالها أو حتى الإقرار بأخطائها
الأفكار تغير في سلوك الأفراد والمجتمعات، والاطلاع على الثقافات الإنسانية العالمية ينعكس تلقائياً على حياة الشعوب، وأهم قاعدة يستند عليها لتطور هذا الوعي هي غياب الأمية وانتشار المعلومات والذي يمكن أن يؤدي إلى سيطرة العلوم على المؤسسات. ولكي نفهم حالة تطور الشعوب فعلينا الوعي بمبدأ الكم المولد للكيف، فليست هناك شعوب يمكنها الانتقال من الأرض إلى السماء بين عشية وضحاها، وليست هناك دول أصبحت عظمى بمجرد قرارات سياسية إن لم تكن نابعة من المعطيات الاجتماعية المستمرة بالتقادم، فمستوى الشعب ينعكس بالضرورة على أداء الحكومة، ولذلك دائماً ما نجد أن الشعوب المثقلة بالصراعات العقائدية والفكرية وانتشار الأمية بكافة مستوياتها هي الشعوب التي لا تتجه إلى الاستقرار والازدهار إلا من خلال أنظمة شمولية حتى لو كانت من خلال العباءة الجمهورية التي يسيطر عليها الحزب الواحد، ومنها الصين وحتى روسيا نسبياً والتي ساعد الأخيرة فيها اقتصاد الطاقة على أن تستقر أكثر.
لم تحقق اليابان نهضتها الكبرى إلا بعد أكثر من 200 عام من محاربة الأمية والبعثات التعليمية والمحاولات المستمرة والسقوط في الحرب العالمية الثانية ثم العودة من جديد، وقد كان سقوطاً عالج مرض عطش اليابانيين للهيمنة والاستعمار والتوسع والذي أصابها بعد نجاحها التنموي والعلمي.
شعوب الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، كانت قبل أقل من قرن في أغلبها أمية، أما اليوم فقد حققت خلال أقل من ثلاثة عقود مستويات متقدمة في محاربة الأمية، ومهما كانت أخطاء هذه الدول إلا أنها مازالت تتحرك وفقاً لخبراتها، ومازالت كل المعطيات تؤكد قدرتها على المضي قدماً إلى الأمام، فارتفاع معدل أصحاب الدراسات العليا حتى لو كان من خلال جودة منخفضة هو الذي يمكن أن يساعد على رفع مستوى الجودة، فالكم يساعد للوصول إلى الكيف، كما أن عاصفة المعلومات التي حدثت في العقد الأخير سوف تنتج مجتمعاً قد نعجز عن استشراف سلوكه في المستقبل، فالأفكار دائما ما تصيب بالعدوى أما الحواجز الثقافية والتي تحمي الشعوب مثلا من اجتياح الفكر الثوري أو الجنسي على سبيل المثال، فهي إما أن تنكسر أو تتطور.
إنه اطلاع يوسع الأفق وتغيرات دفعت الكثير من الآباء إلى تقديم فرص تعليم أفضل للأبناء، وخاصة بعد خوض الأجيال السابقة تجارب تأثرت سلباً بالمشاكل التنموية السابقة والأزمات مع الصراعات المذهبية والسياسية داخلياً وخارجياً.
كل الشعوب عاشت خبراتها، فالغرب تعلم من أزمة الحرب العالمية الثانية فانكفأ على نفسه وانشغل بالمشاهدة والتلاعب بحروب العالم وحماية نفسه من الداخل، ولو تعمقنا في الجذور الثقافية للغرب لوجدناه يملك من الوحشية في ذاته ما يفوق كل ما يملكه العرب من صراعات ذاتية غير أنه وصل إلى مرحلة مواجهة مأساوية لذاته جعلته يقمعها لتتحول أنظمته التي ترتدي عباءة الديمقراطية أذكى في قمع كل فكرة يمكن أن تعبث بسلمه الداخلي كالنازية.
ولم يكن الغرب شراً مطلقاً فاستعماره الذي صاحبه الكثير من العدوان، لم يكن خالياً من التمدين الذي أصاب كثيرا من الدول العربية بعدوى التقليد، ولم يبطش الغرب في أمة أخرى كما بطش في نفسه، ولكنه استمر في التعلم.
أزمة الاحتجاجات العربية التي تفاقمت في بعض الدول العربية دفعت الشعوب الأخرى لتلافي نفس المصير، فالتفت أكثر خلف قيادتها، كما أن بداية الاحتجاجات التي أوهمت الشعوب بالنجاح أدت إلى انتقال العدوى، وهو ما ساعد حتى النخب العربية لتعرف مجتمعها على أرض الواقع.
نتائج هذه الاحتجاجات فضحت مآسينا مع الماضي والحاضر، وأخرجت بعض شرورنا لنراها على أرض الواقع في حالات تبلورت في حركات إرهابية وأنظمة تضحي بشعوبها، ولم يكن تلاعب الغرب والشرق بهذه الأدوات إلا استغلالاً لأبشع ما نعاني واستنهاضاً لأزماتنا مع أنفسنا، بعد أن كدنا أن نعود كأمة عربية متقدمة في مطلع القرن العشرين والذي كان بداية عودة الوعي العربي للعالم بعد خروجه من عصور الانحطاط.
رغم القدرة على تعلم الدروس إلا أننا مازلنا نعاني من تيارات تأبى أن تستوعب عواقب أحلامها وأفعالها أو حتى الإقرار بأخطائها، فمازلنا نعاني من صراع عربي داخلي تلاعبت به الدول العظمى للحفاظ على مصالحها وأهدافها، وبالمقابل فقد رأينا الكثير ممن تعلم الدروس، فهناك من أدرك أن أحلام الشعوب المستضعفة لا يجب أن تكون على حساب ثبات الدولة، وأن تنمية الإنسان يجب أن تسبق الأيديولوجيا السياسية، وأن الإصلاح يجب أن يكون من الداخل، وأن القفز الأعمى في الهواء قد يؤدي إلى كوارث، وأن الصراعات المذهبية والدينية والعقائدية يمكن أن تكون سبباً في كل الشرور، وأن الوطن والمواطنة تسبق الأممية، وأن الحقائق عنيدة ولا بد من تقبلها بعقل يبحث عن الحل لا عن المشكلة.
أزمة الاختناق مع التيارات الشعوبية والتي تسيطر عليها الشعارات قصيرة المدى، سوف تطحنها حركة التاريخ، وسوف يتغير مستقبل العرب إلى الأفضل بكثير من التضحيات، فغريزة البقاء والاستمرار ميزت الثقافة العربية طوال التاريخ، وهي أمة غير قابلة للإبادة، ولكنها قابلة للتغير والتكيف.