الخطابات المهترئة في الزمن الجديد، تؤكد أنها لا تحتاج إلى الاتكاء على أي دعم، «لتمرير» لغاتها الممعنة في التعنصر والتجهيل
لطالما ردد اللغويون أن «الأسلوب هو الرجل»، ثم تجذر هذا القول مع الثورة العلمية في «لسانيات» اللغة التي أكدت أن الإنسان واللغة وجهان لعملة واحدة، وبالتالي فإن المستوى الحضاري للإنسان.. للجماعة.. للأمة.. تفصح عنه اللغة في بلاغتها وتماسكها ورقيها ومصداقيتها وموضوعيتها.
اعتادت هذه الهواجس اللغوية أن تخامرني، عندما أستقرئ الخطابات التي يعج بها واقعنا المحلي في صحفه وإذاعاته ووسائل تواصله الاجتماعي، فأرى في كل مرة خطابات لغوية ترزح تحت وطأة «الترهل» والضعف، اللذين يعكسان جانبين رئيسين: «أولهما» ضحالة الثقافة أو افتقارها -إن وجدت- إلى آلية ذهنية صحيحة «في النظر إلى الأشياء والوقائع والأفكار»، تكون بمثابة الـmethod، الذي يمكّن أصحاب تلك الثقافة «المستحيلة» من الاستفادة من المعلومات، وصرفها فيما يمثل داعما حقيقيا لنهضة الإنسان، وقدرته على استثمار المعطيات المتاحة في تحقيق الخلافة المطلوبة لعمارة الكون الرحيب، والسمو به فوق خرافاته وعقده. و«ثانيهما» الجدب المدقع في مستوى الحس الجمالي الذي يكفل للإنسان تجاوز أزماته وماديته وأزيز حواسه «الموجعة»!.
في مشهدنا الثقافي، نجد في صحفنا من يكتب عن «الصور الفنية» التي تتضمنها قصيدة ما، باعتبار أن ذلك «الكشف» يمثل في -عرف الكاتب- إجراء نقديا جديدا على خطاب النقد!
وفي تلك الصفحات نقرأ -مثلا- عن الحرب التي يتوقع كاتبها أنها ما تزال قائمة بين طه حسين والرافعي!.
أما داهية الدواهي المصدرة للعبث وتجهيل المجتمع وتجييشه للعنف والكراهية والجهل، فهي لغة معظم الخطابات الرياضية، التي يستغل كُتّابها «أعمدتهم» الصحفية، لتصفية حساباتهم الشخصية مع خصومهم وكل «من» لا يروق لهم، فذلك الكاتب «القريب» يستخدم كل مخزونه من اللغة، لمهاجمة ما يناديهم دائما -على عادة لغة الشارع- بـ«المطنوخين»، فيصفهم تارة بأصحاب «النفخة الكذابة»، وتارة أخرى بـ«الكذابين»!، ولكم أن تقيسوا على ذلك كتاب «البربسة» و«القدح» و«موتوا بغيظكم»..!
وتمتلئ إذاعاتنا الرسمية وغير الرسمية باللغة «ذاتها» من المتداخلين والمعلقين الذين ينتظرون «بالساعة»، كي يجيبوا عن أسئلة يتوقع مقدموها أنها حاسمة ومصيرية..، كمثل: «مارأيك في الكلام الحلو؟»، فيجيب صاحبنا المتصل: «الكلام الحلو.. حلو»!، وبالتأكيد فإن اللوم يقع -أيضا- على هؤلاء المعدين والمقدمين، لأن السؤال -في حد ذاته- ثقافة، قبل أن ننتظر الثقافة من شرفات الإجابة، ولعل هذا هو ما دفع أفلاطون أمام عبث لغوي/ معرفي للإجابة عن سؤال بأنه «فاسد»، لمن سأله عن «فائدة الفلسفة؟»!
أما عن خطاب وسائل التواصل الاجتماعي، فإن ما يكتب فيها من بيانات وتغريدات، جعل طيور الفضاء ترفع للسماء تظلمها، من زمن جعل تغريدها اسما لأصوات أرضية ممعنة في تصدير القبح والأنانية!
وبعد، فإن تاريخنا مع خطاباتنا «الهابطة» يفصح عن حقيقة اتكائها قديما على قيم عظيمة، تسخرها على هواها، «لتمرير» مثل تلك اللغات الفاسدة، كأن تجعل الدين العظيم يقف في مواجهة حداثة الكلمات والرؤى، حتى يتسنى لهم إخراج أصحابها من الملة والمجتمع، أو أن تجعل من «الوطنية» فرصة للانقضاض الآثم -بلا أدنى مبرر- على المختلفين وأصحاب النوايا الوطنية الصادقة «فعلا». ولكن تلك خطابات المهترئة في الزمن الجديد، تؤكد أنها لا تحتاج إلى الاتكاء على أي دعم، «لتمرير» لغاتها الممعنة في التعنصر والتعصب والتجهيل، لأن أصحابها وجدوا فضاء ثقافيا وإعلاميا، اختلط حابله بنابله، فصار من السهولة بمكان اختراقه وتعكيره «أكثر مما هو معكر». وقد تلاحظون معي موقع هذه اللغة التي أصبحت شائعة في خطابنا المحلي، من بين اللغات المتنوعة التي تستخدمها شتى الخطابات لصياغة أفكارها ومواقفها، وهي: اللغات الأحادية «التي تطغى فيها ذات الكاتب على كافة المعايير الأخلاقية والمعرفية»، والأصولية «التي يتماهى أصحابها مع نصوص بشرية، بوصفها الأصل والمرجع في الفهم والتقدير»، والاتهامية «التي يتعامل أصحابها مع المواقف والمستجدات بعقلية المحقق، للحكم عليها وإدانتها، باعتبارها مصدرا مناقضا للحق والفضيلة، ولغة اعتباطية «لا تستند إلى أي معيار للحق والخير والجمال، يوظفها قائلوها بأي طريقة ممكنة لإسقاط أوهامهم وأزماتهم النفسية الحانقة أو لمجرد تبرير ضعفهم وفشلهم».
وفي الضفة الأخرى من تراجيع الصوت، هناك اللغة التوليدية المنتجة «التي تتعامل مع المشاهد الإنسانية والأيديولوجية والثقافية كحقول للمعرفة، أو كإشكالات يجب استثمار مكتسباتها وإغنائها وتوسيعها، لجعلها قابلة للصرف والتداول في كل مكان جميل، وعند أية لحظة حضارية منتظرة»!
وبالتالي، فلعل فطنتكم تعرف المسافة الهائلة التي تفصل لغتنا عن هذه اللغة الحضارية الأخيرة، وتقربها كثيرا من التجليات اللغوية السابقة!، ولأني أظن بأني «عكّرت» عليكم فضاءكم اللحظة، بتلك المكونات اللغوية «المؤذية»، فلا مانع من كتابة آخر ما كنت أقرؤه جميلا وخالصا من اللغة /الحلم، وهو نص للقاء «صحفي» مع الشاعر والمفكر الهائل أدونيس، كان يحكي فيه عن تجارب شخصية جمالية ما.. فيقول: «بيني وبين الطبيعة لغة ورسائل، وليس ذلك العهد ببعيد، كان الفلاحون في القرى يحسنون الإصغاء إلى كلام الطبيعة. كانت شجرة الزيتون من بين مفرداتها الأقرب إلى الطبع وإلى القلب. تمد حروفها كمثل الغصون بين يدي التراب أقواسا خضراء حانية، يتداخل رأسها وعنقها في نسيج واحد، كأنها غيمة بقدمين موغلتين في أعماق التراب لا تحب الوحدة، فتؤثر أن تندرج في جملة. منذ أن تمسك جذورها بصدر أمها الأرض تتولى هي رعاية نفسها، لتكتفي بقليل من الضوء الذي تمنحه الشمس، وقليل من الماء الذي يمنحه الغيم...»!
أظن أن «الختام» بلغة الغيمات والأشجار وهسيس الأرض أجمل ختام لهذا النثار المؤرق.