لا تزال فلسطين في قلب كل عربي، وكل مسلم، لا قضية اليوم، أصرح، ولا أوضح، ولا أعدل، ولا أبعد من الفتنة والبغي، كقضية فلسطين.
تربّينا على حب فلسطين، وعلى أنها قضية العرب الأولى، ولا أزال أذكر سنواتي الدراسية الأولى في جدة، حين كانت توزّع علينا بطاقات «ريال من أجل فلسطين»، مرسخين في دواخلنا حب فلسطين، ومساعدة أهلها بما نقدر عليه نحن الأطفال الصغار في ذلك الوقت.
شهدت أنا وجيلي طرفًا من الحرب العراقية الإيرانية، وفي زمن المراهقة شهدنا غزو صدّام حسين للكويت، وتفكك الاتحاد السوفيتي، على يد «المجاهدين الأفغان»، ثم ظهور القاعدة، ثم تمدد الإرهاب في كل مكان، ثم الثورات العربية، ثم ها نحن أولاء نشهد عهد ما بعد الثورات. وها نحن أولاء نرى مشاهد مرعبة مفزعة في العراق وليبيا وسورية واليمن.
ولم تعد فلسطين، ولا الصراع العربي الإسرائيلي، تحتلّ الخبر الأوّل في نشرات الأخبار، لأن ما أصاب العالم العربي من مشكلات، كان أعظم وأجلّ في الإجرام وسيلان الدماء مما يحدث في فلسطين، مع عدم التهوين لما يجري فيها من حصار، وأسر، واستلاب للحقوق نتيجة الاحتلال، والاستيطان الجائر على أرض عربية مسلمة، فيها المسجد الأقصى المبارك، الأخ الثالث للحرمين الشريفين في مكة والمدينة حرسهما الله.
لا يقع تحرير فلسطين في مسؤولية الفلسطينيين وحدهم، ففيها المسجد الأقصى المبارك الذي يعتقد مليار مسلم ونيّف أنه مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، بل هو واجب الأمتين العربية والإسلامية. وليس الاهتمام بفلسطين وبمقدساتها شأنًا فلسطينيًا ضيّقًا، بل هو شأن كل عربي، وكل مسلم على وجه هذه البسيطة.
ومقاومة الاحتلال الصهيوني - أو أيّ احتلال كان - بغض النظر عن طريقة هذه المقاومة واستراتيجياتها حق مكفول من دون أدنى ذرة من شك، فكل من احتلت أرضه، له حق الدفاع عنها، ثم تبقى وجهات النظر في كيفية هذه المقاومة، وفي حالها ومآلها، ومصالحها ومفاسدها مسائل أخرى، لا تلغي «حق المقاومة» من حيث هو حق مشروع لكل شعب اغتُصِبت أرضُه.
ليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها فلسطين للاغتصاب، فلقد أقام فيها الصليبيون ما يقرب من مئة سنة، ثم هبّ الملك صلاح الدين الأيوبي فسعى في تحريرها، وجرت بعد ذلك أحداث، فخرج الصليبيون منها، وصاروا خبرًا يروى.
أذكّر بهذا لأقول لليائسين والمثبطين واللامبالين إن عجلة التاريخ دوّارة، وإن شيئًا كهذا ليس من قبيل المستحيلات، ولا من قبيل نائيات الأماني، بل هو واقع كان، وسيكون إن شاء الله.
لكنّ المهم هو ألا نُهزم فكريًا، ونفسيًا، وألا يؤثر فينا إعلام الغاصبين ومن وراءهم، فيروّجوا علينا ألا نصر، ولا حلّ، ولا نهاية لهذه الآلام.
والمهم أيضًا ألا نصل إلى اقتناع بأن ما يعانيه العالم العربي اليوم هو نهاية الطريق، فلقد مرّت هذه المنطقة سابقًا بهزّات عنيفة، لا يمكن أحدًا أن يتخيّلها اليوم، فلقد بزغ نجم القرامطة في القرن الرابع الهجري، وزحفوا إلى الحجاز، وسرقوا الحجر الأسود من الكعبة، وجعلوه في ديارهم في شرقي الجزيرة، ثم أعيد بعد ذلك، وهلك القرامطة، وهلك من وراءهم.
هناك من يبدي اللامبالاة بقضية فلسطين، ويظهر عدم اكتراثه بما يجري، ولست أدري ما إذا كان بقي في مثل هذا شيء من عروبة! ولم يكن هذا الخطاب ليكون قبل سنين، غير أن مثل هؤلاء لا يمثّلون إلا أنفسهم، ولا يمثلون عموم الشعوب العربية والإسلامية. أضف إلى هذا ما يكتبه مأجورون مجهولو الهويّات على وسائل التواصل الاجتماعي، ممن يوظفهم الصهاينة، فيتكلمون بألسنتنا كأنهم منّا، وما عملهم في هذا إلا قلب المفاهيم، ونشر وجهة نظر الصهاينة للمتلقّين. فالحذر الحذر من هؤلاء المجاهيل المأجورين.
لا تزال فلسطين في قلب كل عربي، وفي قلب كل مسلم، ولئن كان العالم العربي اليوم يعاني من الويلات والاضطرابات والاقتتالات والحروب الأهلية ما يعانيه؛ ما يشغله في الحقيقة عن فلسطين وغير فلسطين، فإن لكل ما يجري نهاية، إذ لا يمكن أن يستمرّ هذا إلى الأبد.
منع الصهاينة الفلسطينيين من صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، فوقف الشعب الفلسطيني المناضل الأعزل في وجه هذا القرار، وأصرّوا إلا أن يقيموا صلاة الجمعة حول المسجد الأقصى، واصطفوا كالبنيان المرصوص، في وجه هذا القرار.
لا قضية اليوم، أصرح، ولا أوضح، ولا أعدل، ولا أبعد من الفتنة والبغي وغيرهما من الأسماء، كقضية فلسطين، ولا مقاومة اليوم نقية، وواضحة، وجليّة، كمقاومة الشعب الفلسطيني.