من علامات غياب الوعي بأخلاق وسياسة التسمية، استعمال الأسماء المتداولة اجتماعيا دون حس نقدي، ودون اهتمام بدلالة تلك الأسماء وآثارها

أسماء العَلَم علامات على علاقة الذات بالآخر، فنحن ننادي الآخرين بأسمائهم، نعرّف أنفسنا لهم بأسمائنا، ونشير إليهم عند حديثنا عنهم بأسمائهم.
استحضار الآخر من التاريخ يتم عبر إعادة التذكير باسمه مرارا وتكرارا. الآخرون الجدد من المواليد نستقبلهم بأسماء قد أعددناها لهم قبل وصولهم، وكأنها هديتنا لهم. نقيم احتفالات خاصة بالتسمية ونُشهِد عليها الآخرين. حين ترتبك علاقتنا مع الآخر يمتد هذا الارتباك إلى اسم الآخر كذلك، يمتد الغضب لعملية التسمية، ونخلق مواقف تعبر عن غضبنا خلال الأسماء. حين يشتد الغضب والعداوة ونريد قطع العلاقة، فإننا نرفض حتى ذكر اسم الآخر ونستبدله بـ«المدعو» أو بضمائر الغائب الكثيرة. وكأن ذكر الاسم يحمل معه الاحترام والتقدير وامتداد العلاقة والرغبة في بقاء الآخر قريبا من الذات. حين نحب الآخر نعبر عن حبنا خلال الأسماء، كذلك فنبتكر أسماء الدلع والتحبب. الأحباب يكررون أسماء من يحبون كثيرا، في دواخلهم العميقة لو منعتهم العوائق الاجتماعية من التعبير عن ذلك في العلن. التبجيل العالي للآخر يحجب عنّا اسمه كذلك. نناديه بألقاب التبجيل والتفخيم والاحترام، بدلا من اسمه، وكأن ذكره باسمه يعني شيئا من المساواة معه.
الأسماء كذلك تحمل معها هوياتنا، فهي ذاكرة في غاية الكثافة. في المجتمعات المتنوعة والمتعددة عرقيا ودينيا تجد الأسماء علامات على هوية الإنسان.
في أميركا مثلا، يكون الاسم إعلانا عن هوية الإنسان الدينية والعرقية إلى درجة معينة. حين يكون اسمك محمدا مثلا، فإن المتوقع أن تكون مسلما ومن الشرق الأوسط. الكثير من التوقعات تكون خاطئة بسبب انتشار الجماعات المختلفة في كل العالم، ولكن تبقى الأسماء تعمل كرايات يستدل بها الكثير على أمور أبعد من اسم صاحبها.
في حالات الحروب والصراعات الأهلية، تصبح أسماء العلم أدلة يجب التعامل معها بحذر. قد يتعرض الفرد للتصفية بسبب اسمه في عالم من الفوضى التي يحاول فيها الناس الاستدلال بأي علامة. في ساحات الصراع الطائفي الإسلامي بين السنة والشيعة، نجد أن أسماء معينة مثل عمر وعلي وحسين تحمل معها إشارات على الهوية الطائفية لصاحبها.
لذا، يتجنب الأفراد من كل جماعة استخدام الأسماء التي قد تعلن عن انتمائهم للجماعة المعادية. حتى على مستوى الانحيازات الأقل حدة في حالات السلم، نجد أن العنصريين في أي مجتمع يستدلون بالأسماء للحكم على أشخاص لا يعرفونهم.
الأسماء هنا تعمل على مؤشرات انتماء محتملة لجماعات معينة، تعطي العنصري فرصة للحكم على إنسان لم يلتق به بعد، فقط خلال اسمه.
كل هذه الأدوار التي تلعبها أسماء العلم، تفتح لنا مبحثا كبيرا وهو أخلاق التسمية.
هذا المبحث يعني الدراسة والاهتمام بالدلالات الأخلاقية المحيطة بعملية التسمية. الفكرة الأساسية خلف كل هذا، هي هذه الفكرة: التسمية. واستعمال أسماء الآخرين عملية تحمل في داخلها تعبيرا عن العلاقة مع الآخر، وتعكس مدى الاهتمام بحقوق الآخر على الذات. ممارسة العنف قد تتحقق خلال التسمية. من عايش الأطفال الصغار في المراحل الابتدائية يعلم كيف يتم استعمال العنف خلال خلق أسماء مؤذية بين الأطفال.
هذا الأمر يستمر بين الكبار، وحتى بين الجماعات. علامة العنف التي لا تغيب، والتي أسميتها في مقال آخر «الإمبريالية»، هي اعتقاد الفرد أن له الحق في تسمية الآخر أو المزايدة عليه في اسمه. عدم الاعتراف بحق الإنسان في تسمية نفسه، أو حق أسرته في حق تسميته، وحقه في أن يكون هذا الاسم تحديدا هو الاسم الذي يتم استخدامه في المجال العام، هو عدم احترام لذات هذا الإنسان واستقلاله وفرديته ومساواته للآخرين. في مقابل الهيمنة على الآخر خلال تسميته، تأتي أخلاق التسمية القائمة على الإنصات للآخر واستعمال الاسم الذي يختاره.
من ألطف المواقف التي واجهتها شخصيا، كمبتعث في أميركا، الحرص الكبير الذي لاحظته من كثيرين على الاستماع جيدا للنطق الصحيح لاسمي، ومحاولتهم الجادة والمتكررة لنطق اسمي بشكل صحيح.
في المقابل، أذكر شكوى من مجموعة من المواطنين الليبيين الأمازيغيين من الحكومة في عهد القذافي، أنها لا تسمح لهم بتسمية أطفالهم بالأسماء التي يختارونها، وتعبر عن خياراتهم الشخصية. القذافي كان ينازع الأمازيغ في هوياتهم، ويعتقد أنه أعلم بهم من أنفسهم بإصراره على أنهم عرب، رغم اعتراضهم على ذلك.
من علامات غياب الوعي بأخلاق وسياسة التسمية، استعمال الأسماء المتداولة اجتماعيا دون حس نقدي، ودون اهتمام بدلالة تلك الأسماء وآثارها، ليس على الذات بل على الآخر.
لذا، أخلاق التسمية أخلاق «غيرية»، تتطلب مغادرة الإنسان حالة الأنانية، والتمحور حول الذات والإنصات للآخر، ومحاولة رؤية الأمور من منظوره.
الأنانية والانغلاق على الذات يدفعان الإنسان باتجاه الاكتفاء بما يراه فيما يخص علاقته بالآخرين. أخلاق التسمية تدفعنا إلى الخروج من هذه الدائرة المغلقة خلال الكشف عن طبيعة التسمية كعلاقة تربط الذات بالآخر. لا يمكن فهم العلاقة خلال التركيز على أحد أطرافها دون الآخر.
قادما سأحاول الكتابة عن علاقة أخلاق التسمية بالضيافة. نعرف أن المضيف يتجنب سؤال الضيف عن اسمه، فلماذا؟