سجل الدوحة حافل في دعم الخارجين على القانون، والتدخل في شؤون الآخرين، ورغم أن تلك الحقائق كانت واضحة منذ البداية لقيادات دول المنطقة، وفي السعودية، إلا أنها اتبعت سياسة الصبر الجميل

ما زالت الدوحة تدور في حلقة مفرغة وتحاول ممارسة سياساتها القديمة المتمثلة في التسويف وشراء الوقت، للخروج من الأزمة الكبيرة التي تكاد تعصف بها، نتيجة سياسة المقاطعة التي اتخذتها المملكة، والإمارات، والبحرين، ومصر، عقابا لها على سياساتها الأحادية التي تركز على السعي لضرب استقرار دول الجوار، وتنفيذ أجندات غريبة وبعيدة كل البعد عن مصالح دول المنطقة الخليجية والعربية، ودعم التنظيمات الإرهابية، ومدها بالمال والسلاح، إضافة إلى التدخلات السالبة في شؤون دول أخرى، وتهديد نسيجها الوطني وتركيبتها الاجتماعية.
فالدوحة، وتحديدا منذ عام 1995، وبمجيء الشيخ حمد بن خليفة إلى كرسي الحكم بانقلاب على والده، ظهر أنها تركز على تنفيذ أيديولوجيات معينة، لا تمت بأي صلة لمصلحة شعبها أو مصالح الشعوب المجاورة. ومع التسليم وقبول أن من حق أي دولة أن تختار مواقفها السياسية والدينية كما يحلو لها، طالما ظل ذلك شأنا داخليا خاصا، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب مصالح الدول المجاورة، وهذا من بديهيات السياسة الدولية، لا سيما إذا ظهر أن تلك المواقف تمثل خطورة على الآخرين، كما أن تلك الأيديولوجيات لا ينبغي أن تكون الهدف الأعلى، لأنها ببساطة ليست أهم من المصالح الوطنية والقومية العليا، لكن قطر أصمّت أذنيها عن ذلك، وتجاهلت كل تلك البديهيات، وفتحت أراضيها لقيادات جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، ومنحتهم حرية التحرك، والتخطيط لشن عمليات انتحارية في مصر، راح ضحيتها آلاف الأبرياء من الأطفال والنساء. وأصبح الدعم الكبير الذي تقدمه الدوحة لتلك الجماعة يشكل تهديدا كبيرا على كافة دول المنطقة العربية، حيث يوجّه لشراء السلاح وتمويل العمليات الانتحارية، وهذا مؤكد بإثباتات قانونية وأدلة لا تقبل التشكيك.
كذلك تقوم قطر بدور خطير ضد جارتها مملكة البحرين، عبر إغراء مواطنيها، لا سيما من الطائفة السنية، على اكتساب الجنسية القطرية، بهدف إحداث خلل في تركيبتها الاجتماعية، وهذه سياسة تخريبية واضحة لها تبعات كثيرة، لا سيما مع الأحداث الأمنية التي تقع في المنامة، ومحاولات إيران وحزب الله اللبناني المتكررة للتدخل في شؤونها الداخلية وتحريض ودعم الخارجين على القانون، والسعي لإلحاقها بتحالف الشر الإيراني.
ومما يؤسف له كذلك النفاق السياسي الذي مارسته الدوحة في ما يتعلق بالشأن اليمني، فرغم مشاركتها ظاهريا في التحالف العربي لاستعادة الشرعية، إلا أنها استمرت في تقديم الدعم المالي والعسكري للانقلابيين الحوثيين، وتحريضهم على عدم التجاوب مع المساعي الدولية الرامية لإحلال السلام وعودة حكومة الرئيس عبدربه منصور هادي. وكذلك دورها التخريبي الذي كشفته الأجهزة الأمنية في أحداث منطقة القطيف، بهدف إضعاف الدولة السعودية، ومساعدة الخارجين عليها.
أما دعمها الجماعات الإرهابية مثل جبهة النصرة وداعش، فهذا مما أثبتته استخبارات دول عظمى ومراكز أبحاث عالمية بأن الحكومة القطرية قدمت الدعم أكثر من مرة لتلك التنظيمات، بشكل مباشر أحيانا، وعبر وسطاء أحيانا أخرى، وما حدث في العراق مؤخرا يثبت ذلك بشكل واضح، وتؤكده تصريحات نائب رئيس وزرائه، إياد علاوي، الذي أثبت بالأدلة القاطعة تورط الدوحة في دعم جماعات الإرهاب، مهددا بتحريك دعاوى قضائية ضد مسؤولين نافذين في حكومة الدوحة، نيابة عن عائلات الضحايا المدنيين الذين قتلوا في تفجيرات انتحارية وقعت بدعم قطري مباشر.
والدوحة مسؤولة أيضا عن استمرار الخلاف بين الفلسطينيين، عبر تقديم الدعم لحركة حماس، وتحريضها على عدم تقديم تنازلات سياسية، وإكمال الاتفاق مع حركة فتح ومنظمة التحرير، رغم محاولاتها الظاهرية لجمع الطرفين في ما عرف بمؤتمرات الدوحة لتحقيق المصالحة الوطنية التي هي مطلب ضروري للفلسطينيين، باعتبارها المدخل الرئيسي لتوحيد الصفوف والجهود في وجه العدو الإسرائيلي، وبلغ الأمر بالدوحة حد التصريح بأن حماس هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وهو تصريح غريب سلب حق الفلسطينيين في اختيار من يمثلهم ويتحدث باسمهم، فإذا كان هذا هو رأي قطر، فعلى ماذا كانت تجمع الطرفين على أرضها؟ وكيف يمكن أن تصبح وسيطا نزيها وهي تنحاز بهذا الشكل السافر لصالح أحد الطرفين على حساب الآخر؟
سجل الدوحة حافل في دعم الخارجين على القانون، والتدخل في شؤون الآخرين، ورغم أن تلك الحقائق كانت واضحة منذ البداية لقيادات دول المنطقة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، إلا أنها اتبعت سياسة الصبر الجميل، أملا في عودة الشقيق القطري وكف يديه عن الأذى، والاندماج في خط السياسة الخليجية التي عُرفت دوما بالاعتدال والنأي عن الإضرار بالآخرين، إلا أن الأخ الصغير اختار سياسة العناد وأصر على مواقفه، وعندما وقعت الأزمة الماضية التي أدت لسحب السفراء، تعهّد ساسة قطر بتغيير السياسات وطرد من يمثلون خطرا على الدول الأخرى، وبعد عودة الأمور إلى ما كانت عليه، واصلت الدوحة نفس سياساتها التخريبية، وبوتيرة أكثر سرعة، مما يؤكد أن تعهداتها والتزاماتها لم تكن سوى محاولة لمواصلة التسويف والمماطلة.
الآن حصحص الحق، وبانت الأمور على حقيقتها، وأدركت دول المنطقة أنه لم يعد بالإمكان غض الطرف عن تلك التجاوزات الخطيرة، وأنه لا بد من وقفة حازمة تمنع الخطر، لا سيما بعد إفصاح ساسة قطر بمواقفهم الداعمة لإيران، والتي لا تؤكد شيئا سوى قلة الإلمام بمبادئ السياسة، فحكام طهران ليست لهم عهود ولا مواثيق، ومن يتحالفون معه اليوم سيكون أول من ينقلبون عليه في الغد القريب. ليس أمام الدوحة سوى الرجوع عن تلك المواقف المعادية، إن أرادت لنفسها أن تظل رقما مؤثرا داخل منظومة الدول الخليجية، وإلا فإن عليها تحمّل الفاتورة الباهظة للمقاطعة، والتي ظهرت آثارها السالبة على المواطن القطري، وستزداد تلك الآثار في الفترة القليلة المقبلة. فليس هناك مجال لتغطية الجروح دون علاجها، والجسد الخليجي لن يرضى بطبيعة الحال أن يظل رهنا لجرح ينخر جسده ويهدد حياته، وكما يقال فإن آخر العلاج الكي أو استئصال العضو التالف، إن لم يكن هناك مجال لعلاجه وإصلاحه.