جدة: محمود تراوري

يروى أن بيكاسو مر مرة بمساحة عشب أخضر، وبعدها بقليل داخلته حالة إبداعية، فأنتج جدارية خضراء. هو فعل يختصر كثيرا من انعكاس الحالة النفسية على المبدع، وحجم تأثيرها في منتجه، وهو ما يتقاطع -بالضرورة- مع الطقس الذي يعيشه المبدع حال كتابته. فإذا كان سارتر يحب الكتابة في مقاه أنيقة، والكاتب الأيرلندي جيمس جويس صاحب «صورة الفنان في شبابه» و«أوليسيس»، يكتب إبداعه في غرفة صغيرة شديدة الضيق مرتديا بدلة بيضاء تشبه ما يرتديه الأطباء والممرضون، فإن عددا من المبدعين السعوديين لا يتذكرون طقوسا محددة للكتابة، لكنهم يذكرون تماما الحالة النفسية التي عاشوها ودفعتهم لكتابة نصوصهم. هنا مساحة لبعض التجارب في هذا الإطار.

علاج من الكآبة
بين الكاتب والكآبة علاقة تكبر بمرور الوقت، أذكر أنني ظللت أعيش هذه الحالة قرابة 15 عاما، دخلت خلالها حالة اكتئاب حاد لم تخرجني منه سوى الكتابة، مشاريع قصص كثيرة وروايات، كانت لي بمثابة الدواء من الحالة التي مررت بها، فلوعة الإنسان الأولى أن حياته أقصر من أحلامه، وهو ما عالجه كافكا باقتدار كبير. ولوعة الإنسان الثانية أن جسده أضيق من إرادته، وهو ما وصفه همنغواي في «العجوز والبحر»، والمبدع بشكل دائما ما تكون أحلامه في الحياة محدودة مقتصرة على أشياء بسيطة، يقترب منها بالكتابة التي تمنحه قدرا كبيرا من المتعة والابتهاج، خاصة عقب خلاصه من نص يكتبه، هذا ما عشته خلال فترة الاكتئاب التي مررت بها، والتي دفعتني لطلب التقاعد المبكر من الوظيفة، فالوظيفة هي بشكل ما جالبة للكآبة بالنسبة للكاتب، الذي قد يشعر بغربة بين زملائه الموظفين الذين تتوقف أحلامهم عند أشياء مادية قد لا يلتفت إليها الكاتب أو لا تشغل حيزا كبيرا من تفكيره، فيشعر بالاغتراب في محيطه، ولعل هذا الاغتراب هو الذي يفضي للإبداع، وهنا تتجلى العلاقة في أسمى وأوضح صورها بين المبدع ونصه. فهو يغوص فيما يكتب، فينقاد لانتشاء عظيم حال فراغه من كتابة نصه الإبداعي.
حسين علي حسين
قاص وروائي

موت ولداي منحني روايتين
القدر أحيانا أقوى من الاحتمال، وأسئلة الاحتمالات التي يفترضها الكاتب، والتحضير لها عند بدء كتابته، فقد وجدت أني أغرق في حزن شائك وشاسع، بفقد اثنين من أبنائي في سنة واحدة، وبعد تخرجهما من الجامعة، وإقبالهما على الحياة، ولم أجد عزاء لروحي، أرحب من الكتابة، فكانت رواية (وحي الآخرة) وفي عنوانها دلالة ميتافيزيقية، ففتنتني بالتجريب المفتوح، قادتني إلى هذا الفضاء، لم أرد أن تكون رواية تسجيلية، ولم أنح حزني، وطبعا لم يكن ابناي أيضا أبطالا لهذه الرواية، ولم يحضرا بين دفتيها، ولكن كان وحي فقدهما أحد مفاتيحي إلى عالم الآخرة، استنفذت هذه الرواية بالذات مني طاقة هائلة، فنحيتها وبدأت كتابة رواية (مدن الدخان) وأصدرتها، وصادف سفري إلى اليمن في وفد ثقافي، بقيت والراحل الكبير الشاعر محمد الثبيتي رحمه الله، فترة بعد مغادرة الوفد، وكان في البال (رسالة الغفران) للمعري، كانت كافية لتربطني بينابيع رواية، وحي الآخرة الأولى من جديد، وكتابة فصولها الأخيرة.
أحمد الدويحي
قاص وروائي

الفقد وحصار غزة
أتذكر أني كتبت قصتي «الصندقة» وأنا متأثر بحصار غزة، لكن النص أتى على قصة منصور صاحب الصندقة الذي مات وهو يبحث عن رزق، لا أستبعد أيضا أن صور الأطفال المؤثرة هي ما دفعني لكتابة روايتي «أطفال السبيل» وأن فقدي لصديق هو ما جعلني أكتب روايتي «جانجي» وهي رواية كانت دوافعها نفسية، لهذا أخذت وقتا في الكتابة لأني كنت أكتب تحت تأثير الفقد، وإذا خف هذا الشعور أترك الكتابة، لهذا أخذت مني هذه الرواية ثلاث سنوات لكتابتها، وهو وقت كبير جدا، لأن جميع ما كتبته لم يكن يأخذ كل هذا الوقت، لأني في الغالب أكتب بشكل متواصل إذا عكفت على كتابة رواية..
هناك شيء قد يبدو غريبا، في بعض الأحيان أتوقف عن الكتابة، وهنا أقصد كتابة الرواية، قد يأتي ظرف، وأتوقف عن الكتابة، وفي حالات كثيرة يستمر التوقف كثيرا، وعند هذا أتفرغ للقراءة، حتى تدفعني القراءة للعودة للكتابة، وهنا أذكر أني عندما انتصفت في كتابة روايتي «نحو الجنوب» وهي رواية أتحدث فيها عن أصحاب الهوية المزدوجة عندنا نحن أبناء القرى والمدن، أتذكر أني تركتها ولم أعد لها إلا بعد قراءة رواية «جاهلية» لليلى الجهني. عملية الكتابة الإبداعية لا نعرف نتائجها، وهذه عظمة الكتابة أن تكون النتائج غير مقصودة، حتى تشرع النصوص للقراء بأسرارها، نحن بشر قد نمارس الكتابة تحت ظروف مؤثرة، لهذا نلجأ للكتابة للبحث والتداوي أحيانا.
طاهر الزهراني
قاص وروائي

الخوف قادني لتقاطع
يمكنني الحديث عن مشاعر الخوف التي تنتاب الكاتب حول عواقب ما يقول حول ضريبة الكلمة والخوف من كل سلطة، بداية من سلطة المجتمع إلى ما لانهاية، الخوف من سوء الفهم والخوف من سوء التأويل والخوف من الاختلاف مع السائد أو المفروض. الخوف من أن تمثلك كلماتك أو أن تصبح غريبة وبعيدة عنك بسبب خوفك، ومن هنا يقولون «إذا قلت لا تخف وإذا خفت لا تقل» فينتهي الأمر بالصمت، والصمت هنا يملؤك بالعجز فتردد لنفسك «أنا لست بطلا ومن هذه الزاوية أتت فكرة رواية «تقاطع».
الشخصية التي تروي هي شخصية مثقف مغرم بالتاريخ يشعر بالعجز والخوف معا ويشعر أنه لا يملك أي قدرة لتغيير واقعه الشخصي، بداية (قبل فترة وجدت نفسي فيما يشبه غرفة تحقيق محاصرا برجال ملامحهم قاسية أقول لهم: ما هي تهمتي، يقترب أحدهم ويقبض على رقبتي أردد بصوت خافت ماهي تهمتي، تستمر أصابع الرجل في القبض على رقبتي وهو يطلب مني الاعتراف بالحقيقة، أصحو من النوم فتنتابني مشاعر السعادة).
وفي مكان آخر من الرواية (أنت لا تفعل إلا أن تجلس في غرفة سيئة التهوية وسيئة الرائحة منشغلا بكتابة رواية عن شاب (داشر) يبيع المخدرات ويخرج للخلاء يرقص الخبيتي ويستحضر الجن. يرد: تبا لهذه القضايا التي يحتاج الإنسان أن يضحي بنفسه من أجلها
صلاح القرشي
قاص وروائي

أمي والحفائر
أجزاء من رواية «الحفائر تتنفس» كتبتها مع والدتي وشعرت بحالة حفر ذاكرة فعلية أرجعتني إلى الحفاير بشوارعها المتربة وأناسها البعيدين، اقتربوا أكثر بوجود والدتي جواري وكأنها تدفعهم للحضور معنا في نفس الغرفة فأصواتهم تتردد حولي وأجسادهم تتحرك في الجوار، لقد أتت الحفاير لحظتها كأجمل ما تكون وكنت حائرا كيف أحول كل هذه الحياة الطازجة حولي إلى كلمات. كان ضغطا نفسيا لا يرحم وإلى الآن كلما تأتيني الذكريات أشعر بارتباك مستمر هل كتبت ما شاهدت ذلك اليوم أم لا؟
عبد الله التعزي
قاص وروائي