تَبنّي أفكار مؤداها أن الفرح والاحتفالات يعدّان نوعا من اللهو والبدع، فإن ذلك من شأنه أن يقتل الفرح ويغتال السعادة، كما أنه يفرض على مجتمعنا عزلة ثقافية
يتولد عن الشعور بالفرح رضا وطمأنينة وراحة تغمر النفس الإنسانية بالسعادة والأمان والارتياح، كما يحتوي الشعور به العقل، بالنقاء والوضوح والصدق والمحبة والتفاؤل والشفافية والإيجابية التي تنعكس على صاحبه
بسمو روحي ورُقيّ فكري يتبلور في سلوكيات ملؤها الرضا والصفاء والتسامح، وقناعات لمبادئ نقية محِبًة للآخرين وللذات الداخلية. فالفرح يسهم إلى حد كبير في بناء النفس السمحة والشخصية الفعالة المعطاءة التي تتمنى الخير لجميع محيطها؛ لذا فعلينا أن نستشعر الفرح والسعادة أينما وجدت، بل ونسعى لإيجادها إن هي غابت لظروف الحياة المختلفة التي نعيشها، وتقلبنا فيها الأقدار بين أتراح ومصائب وكدر ومنغصات مختلفة تستلزمها سنة الحياة؛ فتثبَط النفوس وتتكدر الخواطر وتهبِط الهمم وتُعيق التفكير عن الصواب وتحرفه عن الجادة، كما تتضاءل الإنجازات وتنخفض التطلعات البناءة؛ وبين أفراح وسعادة وأمل وتفاؤل بحاضر سعيد ومستقبل مشرق واعد، إذ يتدفق الشعور بالفرح بخيراته وعبقه لينشر الرضا والمحبة والأمان والسعادة والسرور لمن يعيشه، ومن يقع ضمن دائرة إشعاعه الحي النابض بالخير والارتياح والسعادة والطاقة الإيجابية، فيتولد عن الفرح الرضا والثقة بأن أمورنا جميعها لخير طالما هي مكتوبة من لدن عليٍّ قدير حكيم بأمورنا، مُطّلِع على حاجاتنا، قريب من سرائرنا، كريم بعطائه، فما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا.
بالفرح نعيش الرضا والقبول والاطمئنان لجميع الأقدار، خيرها وشرها، وصدق قوله تعالى: «ما أصابك من خير فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك».
ولهذا، أدركت المجتمعات المتحضرة أهمية الفرح، وهي تسعى إلى إشاعته ووجوده، خلال نشر ثقافة الفرح والاحتفالات، لأن المردود النفسي للفرح والسرور لا يتوقف على الإسهام في بناء شخصيات تتمتع بالصحة النفسية، بل يتعدى ذلك إلى إبداعات ونشاطات مميزة منتجة، فيها تجديد وخلق للروح المعنوية المِعطاءة الملهمة، والذي يفترض أن ينعكس على علاقات أسرية قوية وتربية صحيحة للأبناء، بل وعلى تفاعل إيجابي مجتمعي، إذ يعزز الفرح والسرور من القيم البناءة والتعاون المحمود بين أفراد المجتمع الواحد وغيره من المجتمعات، فيخلق القدرات الإنتاجية الثرية بإبداعاتها ويسهم في بناء المجتمعات الراقية في أهدافها وتطلعاتها، ولهذا نجد المجتمعات الصناعية بقدر ما تعلي وتهتم بثقافة الإنتاج والعلم، نجدها تعزز كذلك من قيمة الترفيه والفرح والسرور، فتقيم الاحتفالات وتحيي المناسبات السعيدة، وتعمل على خلقها وإنعاشها، لأنها تعي قيمة مردودها النفسي والفكري بما تحمله من معان مبهجة وتوجهات سامية ومردود بناء.
وإنّ من حكمته سبحانه وتعالى في الاحتفال بعيد الفطر، أنه تجديد للفرح ومعايشته، وذلك بعد إنجاز الصوم بمشقته، وكمكافأة بعد نَصَب، إذ يكون الناس قد أدوا فريضة من فرائض الإسلام وانتهوا منها، وبما تتضمنه تلك الشعيرة من معاني المشاركة الإنسانية بالجوع والعطش لما يتحمل عناءه غيرنا من البشر في غالب أيامهم، وما يفرضه الالتزام بالصيام من الانقياد والطاعة لرب العباد في شعيرة من شعائره، وركن من أركان دينه، وفي صلاة العيد تكون المكافأة والجائزة الربانية، بالقبول بفضل من الله ومِنّة، ولعل جميع ما تتضمنه سنن العيد، وما يستحب فيه وما يندب إليه يشير إلى مظاهر الفرح وإشاعته، ويؤكد أهمية تجديد السعادة واستشعارها ونشرها، فبها تنجلي النفوس من صدأ الضغينة والحقد وتَطهُر الذات من سوداويتها وأدرانها، فيكون العيد بصلاته وطقوسه شكرا لله عز وجل على نعمة الصيام، وتنقية من الذنوب والمعاصي؛ لأن من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه؛ فكان عيد الفطر مناسبة ليفرح فيها الناس بنعمة مغفرة الذنوب ورفع الدرجات وزيادة الحسنات، بعد موسم من الطاعات.
أما عيد الأضحى، فهو تتويج لأهم أركان الحج المتمثل في الوقوف بعرفة، ومكافأة تتخلل أداء ركنه الخامس بحج بيت الله الحرام، وفي ذلك تأكيد وتنويه لأهمية الشعور بالفرح وتجديده وإشاعته، كما أن فيه تعزيز لقيم دنيوية ودينية باستحقاق المكافأة والعطاء بعد الإنجاز والالتزام بالطاعات.
وقد شرعت صلاة العيدين في السنة الأولى من هجرة النبي -عليه أفضل الصلاة والسلام- فيما روي عن أبي داوود، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلِّ اللهم عليه وسلم- المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: «ما هذان اليومان؟» قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله قد أبدلكما بهما خيرا منهما؛ يوم الأضحى ويوم الفطر».
ومن هديه عليه الصلاة والسلام، أنه يظهِر الفرح والسرور، ويجتهد في إدخال الفرح في نفوس المسلمين، خصوصا الصبيان منهم والنساء، وفي ذلك توجيه نبوي ومنهج دنيوي تطبيقي لأهمية إشاعة الفرح والسرور بين الناس، لعظم مردوهما النفسي والمجتمعي في بث روح الألفة والمودة والرحمة، وتجديد أواصر التواصل بين أفراد المجتمع.
وفي المقابل، فإن تَبني أفكار مؤداها أن الفرح والاحتفالات تعدّ نوعا من إضاعة الوقت والعبث واللهو والبِدع، فإن ذلك من شأنه أن يقتل الفرح ويغتال السعادة ويحجر عليها، كما أنه يفرض على مجتمعنا عزلة ثقافية عن سائر المجتمعات الإنسانية، وإن الاعتقاد بأن قوله عليه الصلاة والسلام «إن لكل قوم عيد وهذا عيدنا»، يقتضي عدم جواز الاحتفال بغيرهما أو تحريم استشعار الفرح والسرور فيما دون ذلك، فإن في ذلك مخالفة لمضمون وفحوى المبادئ الإسلامية وما تدعو إليه الشريعة من توطيد العلاقات الإنسانية والسمو بها ونشر التسامح المجتمعي، ونحن في ذلك لا نقول ولا نؤمن بأعياد غيرهما لتخصيصه عليه الصلاة والسلام أعياد المسلمين بعيدي الفطر والأضحى؛ غير أن ذلك لا يعني أن تكون الاحتفالات على اختلافها محرمَة علينا وقاصرة على العيدين فقط، لكونها تشيع الفرح والسعادة في النفوس، وهي حافز للعطاء ووسيلة وأداة لتقوية العلاقات الاجتماعية وللتوجيه نحو الاهتمام بقيم ومناسبات وأحداث مختلفة، وإحياءٌ لذكريات تاريخية مهمة لها أثارها الإيجابية في نفوسنا وعقولنا سواء الثقافي منها والإنساني أو الديني والوطني، بل وحتى الدولي، فنحن جزء من تلك المنظومة العالمية من الدول، وشريحة من شرائح المجتمع الدولي الإنساني، نتميز بخليط من الثقافات والعادات والقيم، ونتفرد بالدين الإسلامي، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نحتفل ونعيش ونتعايش مع ما يخصنا من مناسبات دينية ودنيوية، وما يعيشه العالم حولنا من مناسبات، فذلك جزء من تبادل الثقافات والتقاء الحضارات التي تقارب بين الشعوب والأمم وتجمع بينها، وصدق الله تعالى في قوله: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» (الآية: 13 الحجرات).
فلنبتهج ونسعد بأيامنا قبل أن يسرقها الزمن، ولنفرح بمناسباتنا وأعيادنا التي تستحق الاحتفاء بها، ولنستشعر فرحتها ونعيشها مع أسرنا ومجتمعنا بكل فعالياتها وأدواتها ومظاهرها، من غير إفراط ولا تفريط، ولنحمد الله على نعمة الأمن والأمان التي حبانا إياها المولى في ظل وطن يحتضننا، وقيادة شابة مسؤولة تتطلع إلى المستقبل بتفاؤل محمود وبصيرة واعدة وجهود مباركة. وكل عام وأنتم بخير.