هناك غالبية صامتة لا تهمها التجاذبات السياسية ولا الصراعات العقائدية ولا اتخاذ موقف من قضية ما، ولا يهمها إلا ضمان حياة شخصية واجتماعية أفضل

نتأثر كثيرا بآراء الناس في الصحف الإلكترونية وحسابات التواصل الاجتماعي، وقد نطلق من خلالها أحكاماً خاطئة على المجتمع دون أن ندرك عدة معطيات قد تجعل هذا القياس خاطئاً.
بعض الوسوم يشارك فيها ألفان أو ثلاثة أو أكثر رغم الحاجة إلى مشاركة عدد أكبر، ومن توجهات مختلفة، وبطرق منهجية معروفة في مبادئ الإحصاء، فهذه المشاركات قد تحدث من خلال تنظيم مسبق أو تحريض من أحد المؤثرين، أما الدوافع فكثيرة، منها الكراهية أو الحب، العداوة والولاء، ومنها الشعور بالفراغ أو حتى الاحتساب المذهبي، وقد نرى أشكالاً من الصراع التياري يصل إلى الفجور في الخصومة باختلاق الحقائق المزيفة، وهناك دوافع نفسية مهمة لاتخاذ عامة الناس مواقفهم، ومنها الرغبة في التهريج أو تضييع الوقت أو التسلية أو حتى التخلص من الشعور بالذنب على طريقة أحب الصالحين ولست منهم. العوام في كل مجتمع هم العوام، ودائما هناك قدرة على استقطابهم وتحريكهم وتغيير توجهاتهم بشكل جذري من خلال قادة الرأي العام، ولذلك قد ينقلب البعض من الرأي إلى النقيض، وهو ما تؤكده نتائج قياس الرأي العام في الانتخابات الأميركية، إضافة إلى أن هناك أحداثا قد تكشف الحقائق، ومنها حادثة التعاطف مع تركيا والمطالبة بدعم منتجاتها بعد إسقاطها للطائرة الروسية، وذلك قبل أن تعتذر تركيا عن ذلك، وقد جاء هذا التعاطف تحت عدة عوامل نفسية، منها وهم البحث عن بطل إسلامي حتى وإن كان مزيفاً، ولكن بعد معارضة الدولة التركية وتعرض صحافتها للسعودية فقد وجدنا الكثير ممن تراجع عن تعاطفه وليبدأ صوت مهاجمة الأتراك بالظهور مع انكماش الصوت السابق.
دوافع بعض العوام قد تكون دوغمائية بعقلية القطيع دون قدرة على بذل الوقت والجهد في القراءة والتحليل أو الصبر على إطلاق الأحكام، وهناك دافع خطير ومعروف في علم الاجتماع هو التقليد، حيث إن الناس تطلق أغلب الأحكام من خلال تقليد الآخر، وخاصة في تقليد النماذج التي تنال الإعجاب، وقد يصل ذلك إلى مرحلة ركوب الموجة وتبني رأي الأقوى والأنجح، وهناك من يميل إلى الشعارات والكلام العاطفي والغنائي حتى لو كان مخالفاً للحقائق، فالأغاني ظلت دائما وسيلة للتحكم في توجهات الشعوب.
حتى استبيانات الصحف والشبكات الاجتماعية قد تستهدف فئات محددة من المتابعين، وقد تأتي على شكل أسئلة خادعة تحرض على إجابة معينة، وهو ما تفعله بعض الصحف والتي نجد المعلقين على صفحاتها يختلفون في توجهاتهم من صحيفة لأخرى بسبب قدرة الإعلام على صناعة التوجهات واستقطاب التيارات حتى مع ادعاء الحياد والموضوعية. الطرق العلمية في قياس الرأي ليست سهلة، وقد تكون مكلفة وتستغرق الكثير من الوقت والجهد، وحتى هذه الجهود قد تواجه مسألة تغير الرأي، فلو افترضنا أن هناك 10 أشخاص يؤيدون شخصية معينة في أحد الاستبيانات، فقد يتراجع منهم 2 فورا بعد الإجابة عن الاستبيان بسبب تأثير رأي صديق، ويتراجع 3 بعد تصرف ما لتلك الشخصية ويتراجع 3 آخرون بعد امتلاك معلومات جديدة عن شخصية أخرى مثلا. فحتى الإحصاءات يمكننا أن نخطئ أو نتلاعب بطريقة تفسيرها، فإحصائيات نسبة العطالة لا تقيس دائما من لا يرغب فعلاً في العمل أو المتكاسل عن العمل.
عندما نجد الكثير من التعليقات على إحدى القضايا أو الوسوم أو مقاطع الفيديو، فعلينا توجيه الكثير من التساؤلات، مثل السؤال عن عدد المشاركين مقارنة بإجمالي التعداد السكاني، وما هي دوافعهم وأعمارهم وخلفياتهم ومستواهم التعليمي، وهل هم فعلا حقيقيون وليسوا أصحاب حسابات مزيفة معادية ومن دول أخرى.
هناك احتمالات كبيرة ومثبتة على نطاق واسع في العمل المنظم على تزييف الآراء، سواء كان ذلك لدوافع تجارية أو مذهبية أو سياسية، وهناك دور لعدد من أجهزة الاستخبارات أو الأحزاب المعادية في مختلف الدول كحالة تبني حسابات أجنبية لهويات سعودية مزيفة، وهناك أشكال مختلفة للتزييف، منها تعدد الحسابات والمشاركة بعشرات أو آلاف الحسابات لشخص أو مجموعة، أو حتى التظاهر بالانتماء لجهة معينة لإيصال رسائل غير مباشرة، وهو ما فعله البريطاني إيان فليمينج مخترع شخصية جيمس بوند لأول مرة، عندما أطلق إذاعة ألمانية تهاجم بريطانيا، وتمجد ألمانيا بهدف نشر رسائل غير مباشرة تنشر الإشاعة وتثير البلبلة، وتحرض الألمان على التمرد، وهو ما تفعله حسابات كثيرة تعمل بشكل منظم على نشر الإشاعات ومحاولة التأثير المزيف على الرأي العام. ستظل الغالبية الصامتة تمثل رأيا مختلفاً في أغلب الأحيان، وهذه الغالبية قد تختلف من مدينة لأخرى ومن عائلة لأخرى ومن مقر عمل لآخر، بل ومن زمن لزمن، وقد ننخدع حتى في الثورات التي أطلق عليها البعض بالمليونية، فهناك غالبية صامتة لا تهمها التجاذبات السياسية ولا الصراعات العقائدية ولا اتخاذ موقف من قضية ما، ولا يهمها إلا ضمان حياة شخصية واجتماعية أفضل.