حين نكون في مواقف مثل موقف المقاطعة هذا، لا يليق أن نجد بيننا حائرا لا يدري أين يقف، مع الأمة أم مع الوطن، وهي حيرة يتحمل مسؤوليتها خطابنا الوعظي والتعليمي

حين تتعلق المسألة بالوطن وأمنه ومستقبل أجيالنا فيه، فلا يوجد إلا خيار واحد هو الانحياز إلى الوطن ولو ضد العالم كله. نحب قطر، وهي جار أدنى، والجندي القطري كان معنا في حربنا مع الحوثيين، لكن حين تأتيك الريح الصرصر من النافذة القطرية، فلا نؤمن إلا بالوطن وحده. وإذا كاد لك العدو الأجنبي تحت العباءة القطرية، فلا معنى للحب والمجاملة.
المعنى الوحيد آنذاك للوطن وحده. نحب تركيا ونحب قطر، ولا نجهل ما الذي لنا عندهم، إنما ساعة الاصطفاف
فلا صف إلا صف الوطن وحده. لا بد من الأخذ على يد من أراد أن يخرق مكانه من السفينة بدعوى أنه حرّ في مكانه، فمستقبل الأوطان لا يحتمل إحسان الظن بنوايا الآخرين.
كتبت هذا على صفحتي في «فيسبوك» قبل أيام من الإجراءات السعودية الإماراتية البحرينية حيال سلوك الحكومة القطرية، فتلقيت رسالة من أحد أصدقائي يقول «كلنا مع الوطن، لكن المشكلة حين يصبح المثقف مغفلا مستغفلا، هناك من يصنع له خصومه ويغريه بلعنهم وسبّهم وربما مقاطعتهم وحربهم إذا لزم الأمر، كيف أصبحت قطر وتركيا عدوّين لنا في ظرف أسبوعين وبعد زيارة ترامب، بينما الخصم الحقيقي الذي يخاتلنا ويصنع من وراء الكواليس ما يجهض مشروعنا المصيري.
المثقف لا يرابح بأكثر من دينه وأمته وثوابت عروبته، أما التكسب باسم الوطن والدفاع عنه وتغييب الوعي المحلي والعربي باصطناع عدوّ وهمي ونسيان العدو الحقيقي، فهذا عيب على المثقف، قل لي: ماذا صنعت قطر ضدنا؟ أربأ بك أن تكون بوقا لغير وعيك وفكرك وثقافتك».
كانت هذه الرسالة قبل أن تتخذ الدولة إجراءاتها، وقبل أن يتضح لنا كثير من الحقائق التي نجهلها كمواطنين عن أدوار خبيثة لحكومة قطر، ولا بد الآن أن صديقي هذا قد اطلع عليها مثلي، وهو صديق أعرف صفاء نيته وصدق وطنيته. فكلنا تربينا وعيا وتعليميا وإعلاما على مفردات «الأمة /‏‏ الثوابت» سواء العربية أو الإسلامية، وكل ذلك على حساب مفهوم ثابت أهم هو «الوطن» حتى كادت أن تكون مفردة «الوطنية» تهمة، وكأنها نقيض للأمة والدين.
في المواقف الأخيرة ضد سياسة قطر، تواثب كثيرون يقولون إن هذا ضد مصلحة «الأمة» العربية الإسلامية، وهم ينسون حقيقة أنه كي تدعم «الأمة» لا بد أن تكون أولا مستقرا وقويا في ذاتك ووطنك.
الدين والأمة مسائل عامة وعابرة للحدود، بل لا حدود لها، أما «الوطن» لا يحتمل إلا تفسيرا واحد لا اختلاف عليه، لكن التركيز التربوي على عموميات كالأمة والدين جعل الفكرة الوطنية خافتة، خلال العقود الماضية، وجعل كثيرا منا يتحرج إذا نادى بتقديم ثابت «الوطن» قبل كل شيء.
صلّ فريضتك في مسجد الوطن أولا، ثم قم بنافلتك أينما شئت في مساجد الأمة العربية وجوامع الأمة الإسلامية. قف داخل دائرة «الوطن» أولا، ثم تحدث عن دوائر الآخرين. ارفعْ يديك بالدعاء للوطن أولا ثم ادعُ لمن تشاء. وكي تهتم بالآخرين كما يجب اهتم بنفسك أولا.
فكرة «الوطن قبل كل شيء» ليست ترفا بل ضرورة، يجب تكريسها في العقول والوجدان قبل فكرة «الأمة» وغرسها في كل منابرنا ومناهجنا وإعلامنا، وهي فكرة ليس فيها عداء لأحد ولا انتقاص من دين ولا أمة. أختم هنا بكلام من المستويات العليا للقيادة؛ لولي العهد الأمير محمد بن نايف، قاله قبل شهر واحد:
«إن التحدي الأكبر لأي دولة في عالمنا المعاصر، هو المحافظة على وحدتها الوطنية، بعيدا عن أي مؤثرات أو تهديدات داخلية أو خارجية، وحدة وطنية تعلو فيها ولاءات الوطن على ما دونها من ولاءات شخصية أو عرقية أو مذهبية تفرق ولا تجمع، وحدة وطنية يدرك في ظلها كل فرد واجباته تجاه وطنه وأمته، ويعمل من أجل أمن واستقرار مجتمعه، ويواجه بفطنته المؤثرات السلبية والتوجهات الفكرية المنحرفة دفاعا عن دينه وحماية لوطنه».
وعلى الدولة أن تواجه هذا التحدي، وأول منازلة لا بد أن تكون في الميدان الفكري والتربوي.
حين نكون في مواقف مثل موقف المقاطعة هذا، لا يليق أن نجد بيننا حائرا لا يدري أين يقف مع الأمة أم مع الوطن، وهي حيرة يتحمل مسؤوليتها خطابنا الوعظي والتعليمي.
الوطن لا يجوز أن يكون خيارا بين خيارات، الوطن دائما خيار أوحد.